ست مائة هكتار هي مجموع المساحة التي أقيم عليها حي الرياض بالرباط، الذي شرع في تهيئته منذ أواخر السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي. وتخترقه اليوم شوارع بطول تجاوز 124 كيلومتر.

ومما لا شك فيه أن هذا الحي يبقى نموذجاً للمشاريع العمرانية الناجحة ببلادنا، حيث أعد بنظرة استباقية في مجال التعمير. وهو اليوم حي سكني وتجاري وإداري راقٍ، تتمركز به عدد من القطاعات والمؤسسات العمومية والشركات الكبرى، إضافة إلى هيئات دولية ودبلوماسية.

ويبقى (المحج) بمطاعمه ومقاهيه وساحاته القلب النابض لحي الرياض.

في السنوات الأخيرة، اعتدت على قهوة صباحية بهذا المكان مع صديق عزيز، حتى أصبح هذا الموعد طقسا لا نتخلى عنه، إلا للقوة القاهرة أو الحدث الفجائي، كما شرحهما الفقيه القانوني عبدالرزاق السنهوري في موسوعته حول القانون المدني.

وعادة ما يستمر هذا الطقس القهوجي، ما بين 30 و45 دقيقة، فتكون كافية للحديث عن المستجدات السياسية عرضيا والثقافية أساسا مع القليل من (النميمة) الاجتماعية، التي لا تحلو الجلسة بدونها، وللتأمل في رواد المقهى وفي المارة حيث يتعايش جنبا إلى جنب الشباب بسلوكهم الحداثي ظاهريا ولباسهم الشبابي العصري مع أصحاب المحافظ الجلدية، والبدل الغامقة ورابطات العنق المزركشة والياقات البيض.

ولعل هؤلاء يطمئنوننا أن جزء من إدارتنا ومؤسساتنا مازال بخير على مستوى مظهر مسيريها على الأقل .

لكن هناك فئة ثالثة من رواد محج الرياض بسطاء في مظهرهم، وإن كان بعضهم لا زال متشبثا باللباس الرسمي للإدارة، حيث تجاوز جلهم عقدهم السبعين وكسى اللون الأبيض ما تبقى من شعرهم، وقليل ما تصادفهم فرادى، فهم إما يلتئمون على طاولة جماعة، ويكثرون من الماء وقليل من القهوة (بالساكرين ) أو  الشاي بدون سكر، وإما تراهم يمشون بالمحج ذهابا وإيابا، بخطوات تتأرجح ما بين الهرولة والبطء، عندما يقتضي الحديث التوقف لتدقيق بعض المعطيات، وكأنهم يطوفون ما بين بين الصفا والمروة .

إنهم سفراء وولاة ومستشارون وقضاة ومدراء عامون ومركزيون ورؤساء مؤسسات عمومية وخاصة وضباط سامون وبرلمانيون سابقون وحتى عدد من وزراء الزمن الجميل، (بدون عقدة العصر الذهبي).

وكم يحز في النفس عندما تشاهد هذا الخزان المعرفي والرصيد الهام من الخبرة والكفاءة والتجربة الناجحة منها والمتعثرة، لم تبن لها جسور ولم تهيأ لها فضاءات لتعيد للمجتمع وتتقاسم معه ما تعلمته في دروب الحياة ومسارات الأيام وتشعباتها.

هناك في العالم الآخر المتقدم يسمونهم  les seigneurs ، وهنا يطلقون عليهم المسنون والعجزة، هناك مرافق مدنية وعلمية مفتوحة ليستمر هؤلاء في الخدمة والأداء لمن أراء منهم ذلك.

تأملوا من ينشط كبار مراكز التفكير في العالم (الثينك ثانك) مراكز لها أثر قوي في السياسة الداخلية والخارجية لبلدانها، تركيا ألمانيا، الولايات المتحدة الأمريكية للمثال لا الحصر.

أما هنا فعندما اجتهدت نسيمة الحقاوي التي كانت وزيرة بالخطأ للأسرة والشؤون الاجتماعية، أطلقت حملة لتقول للمغاربة (الناس الكبار كنز في الدار)، وذلك ليحكوا القصص للأحفاد مع استلطاف النداء ببابي و مامي .

بعد المحج يعود الجميع إلى سكناه، ويسدل الليل ستاره فتجد نفسك لزوما أمام الشاشة، التي دأبت في السنوات الأخيرة على استضافة بعض المعلقين والمحللين على الأحداث الوطنية والدولية، التي تتناولهاا القناتين في أخبارهما .

دون أن يطالعك أحد وجوه هذا الخزان من الخبرة والتجربة في كل مجالات التي يمكن أن يتناولها الإعلام العمومي والخاص ببلادنا .

ولست أدري هل هو تقصير من مسؤولي الإعلام السمعي البصري؟، أو هو رقابة ذاتية لم يتخلص منها كبارنا؟ رغم أنهم خارج المسار الإداري، ويعلمون جيدا ما يمكن تقاسمه وما يمكن الاحتفاظ به، أم هناك يد خفية تتحرك في الظلام وتفضل أن يسود العبث؟.

وهكذا تجد نفسك أمام أشخاص لهم كل الاحترام طبعا، عوض ان يقدمهم الإعلام للرأي العام بصفتهم المهنية، أو في أحسن الأحوال بلقب تشريفي كالدكتور أو الأستاذ أو الباحث تراه يطلق عليهم (الخبراء)، مع العلم أن الخبير في كل المعاجم العلمية منها والقضائية والسياسية، هو شخص يكون ذو معرفة متقدمة في مجال معين وهذا وحده لا يكفي،  ولا بد من أن يكون قد مارس في هذا المجال سنوات عديدة وكسب تجربة، وهذا لا يكفي بل لا بد أن يتميز عن أقرانه في مجال خبرته ويقرون هم بذلك .

فكم من محلل يحلل ويفسر السياسة الدولية والارتباطات الديبلوماسية، وهو كل ما يعرفه عن ذلك هو دروس قلائل في العلاقات الدولية، حضرها بكلية الحقوق، مع دعوته لحفل استقبال لإحدى البعثات الديبلوماسية، بمناسبة العيد الوطني لبلادها لأكل ما تيسر من مأكولات القُطر الشقيق.

وكم من محلل استراتيجي وأمني يحلل السباق نحو التسلح في العالم، وهو آخر سلاح تفحصه هو ذلك المسدس الذي كنا نستعمله ونحن صغارا بمناسبة عاشوراء لنقذف بعضنا البعض بالماء.

وما أن تغير القناة وتجوب العالم إلا وتشاهد نوع الضيوف ومستواهم: سفير سابق جنرال سابق وزير سابق وآخرون.

وفي الأخير، فضيوف قنواتنا مطلوب منهم أن يرفضوا كل صفة ألصقت بهم، وهي ليس لهم احتراما لأنفسهم قبل المشاهدين،  فاللغة العربية غنية وليست كسولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *