نعود إلى الدورة الأخيرة لمجلس مدينة الدارالبيضاء التي انعقدت قبل حوالي أسبوعين، والتي فجرت فضيحة من العيار الثقيل، بعد رصد هذا المجلس “الموقر جدا” مبلغ “صفر درهم” للجمعيات الثقافية والرياضية المتوزعة على المقاطعات الـ16 للدارالبيضاء.

*حسن عين الحياة -المنعطف

عندما تمعن النظر في مدينة الدارالبيضاء، وما تمثله الآن من قوة اقتصادية، وطنية وقارية، تدرك بديهيا، أن هناك إرادة خلاقة تقف خلف ابتكار المشاريع الكبرى فيها، وتسهر على تقدم أوراشها الاستراتيجية، وتعزيزهما بالبنيات التحتية الصلبة، بهدف تحقيق الريادة في إفريقيا من جهة، وخلق نموذج حي للتنمية المستدامة من جهة ثانية.. فهي مدينة الإسمنت الذي يتمدد طولا وعرضا، ومدينة الشركات العملاقة والمؤسسات المالية والأسواق الكبرى والعمران والفنادق المصنفة والشبكة الطرقية المتطورة والمتنوعة، وغيرها من الامتيازات التي لا تتوفر في المدن الأخرى. لكنها في غياب تنمية ثقافية حقيقية، تظل مدينة بلا روح وبلا صمام أمان، وبلا روافد تغدي هويتها كقطب حضاري وعاصمة اقتصادية للمملكة.

ولكي نقف عند المسألة الثقافية في هذه المدينة المليونية، وكيف يراها المسؤولون عن تدبير الشأن الثقافي فيها، نعود إلى الدورة الأخيرة لمجلس مدينة الدارالبيضاء التي انعقدت قبل حوالي أسبوعين، والتي فجرت فضيحة من العيار الثقيل، بعد رصد هذا المجلس “الموقر جدا” مبلغ “صفر درهم” للجمعيات الثقافية والرياضية المتوزعة على المقاطعات الـ16 للدارالبيضاء. وبغض النظر عن محاولة رئيسة المجلس احتواء هذه الفضيحة، بعد تأجيلها البث في هذه النقطة إلى اجتماعات لاحقة “مغلقة بطبيعة الحال”، وبغض النظر أيضا عن الصدمة التي أحدثها هذا القرار داخل الدورة، وكيف أحرج التحالف المدبر لشؤون جماعة الدارالبيضاء، أتساءل مثل كثيرين عن ردة فعل النخبة المثقفة في المدينة، وعن ركونها إلى الصمت، وعن تسليمها بالأمر الواقع، وهي التي علمتنا أن الصمت نوع من التواطؤ وتزكية للفعل، أكثر منه تعبير عن الرفض. وحتى لا نتهم أحدا بالتواطؤ نقول كما العرب القدامى، التمس لأخيك ألف عذر.. والعذر هنا، أن هذه النقطة الفضيحة مرت “حسي مسي”، دون أن يلتفت إليها الإعلام، اللهم مقال يتيم للزميل العربي رياض الذي كان شاهدا على هذه الفضيحة.

في الواقع لا عذر للمثقف الذي “يتجلى” في هذه الندوة أو تلك، أو في التظاهرات الكبرى، دون أن يسجل موقفا، كأضعف الإيمان، من هذا القرار المجحف في حق الثقافة في مدينة هي الأكثر كثافة للسكان. إذ ما الفائدة من الحديث عن ستانيسلافسكي وغروتوفسكي وبريخت، أو عن حسنات الصناعة الثقافية و”ذاك الشي”…. وحوالي 4 ملايين نسمة في الدارالبيضاء محرومون من حقهم الدستوري في الثقافة.. قد يقول قائل: “وكيف للمثقف أن يعلم بهذا القرار وهو حبيس المكتب والجامعة أو مشغول بوضع أرضية أو مداخلة لندواته التي لا تعد ولا تحصى..؟ الجواب واضح، وهو أن المثقفين، وليس كل المثقفين، أصبحوا يشتغلون للفوق أكثر من اشتغالهم للتحت.. وبالتالي حين ينفصل المثقف عن كل ما يشغل الناس، يترك مساحة للمسؤولين عن تدبير شؤون الناس ليقرروا كيف شاؤوا في مصائر الناس.. وهذه المساحة قد تتمدد وتتقلص، في غياب المثقف الذي ظل حاملا لصفة “ضمير الأمة”.

إن اللوم هنا لا يخص المثقفين وحدهم، وإنما حتى الفنانين وفعاليات المجتمع المدني، وما أكثرهم في الدارالبيضاء.. مثلا هناك أكثر 2000 جمعية ثقافية في الدار البيضاء، ولا أحد منهم احتج أو قال عن “هاذ صفر درهم” التي خصها المسؤول عن مصلحة شؤون الثقافية للجمعيات الثقافية بمجلس الدار البيضاء “اللهم إنا هذا منكر”.

تصوروا أن هذه المدينة التي تتوفر، أكثر من غيرها، على عشرات المسارح والمركبات الثقافية والخزانات البلدية ودور الشباب والفضاءات التربوية، يخصص مجلس المدينة للجمعيات الثقافية والرياضية النشيطة فيها زيرو درهم.. هذا في الوقت الذي يفترض حسب المتخصصين في الشأن المحلي أن يُرصَد مبلغ 5 ملايير ونصف مليار سنتيم لهذه الجمعيات، حتى تقوم بدورها في إشعاع الفعل الثقافي في مناطقها. إنها فضيحة، وجريمة في حق الثقافة كبُعد من أبعاد التنمية التي أقرها دستور 2011.

الأسئلة المطروحة الآن، هي لماذا لم يستحضر المسؤول عن هذه الفعلة في مجلس المدينة، المواطنين الذين صوتوا عليه؟ إنه منتخب والمجلس برمته منتخب أيضا، فلماذا نكت أعضاءه العهد، وهم الذين وزعوا برامج انتخابية تتضمن وعودا بتنمية الثقافة في مجالاتهم الترابية؟ لماذا خصص المجلس ميزانية “مابيهاش” للجمعيات النشيطة في المجال الاجتماعي على حساب تغييب كلي لدعم الجمعيات الثقافية والرياضية؟ أسئلة ستضل مطروحة إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.. “ودوز بخير”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *