إدريس الكنبوري

 

مات السبسي، الرئيس التونسي، وأغلق -ربما- قوس بورقيبة وبن علي. ختم الرئيس الراحل حياته بما صار حكاية على جميع الألسن، أي الهجوم على مسمى مرجعية القرآن وأن المرجعية العليا هي الدستور، عندما أثير موضوع المساواة في الإرث، إذ طالب السبسي بجعل المساواة قانونا.. وهكذا فهم الناس أن الستينيات لا تختلف عن 2018. يوم شرب بورقيبة العصير اللذيذ في رمضان هنيئا مريئا ليعطي القدوة الحسنة، ويوم خطب السبسي العام الماضي.. لا فرق، لأن فرنسا لديها نفَس طويل وما فشلت فيه في عام مستعدة للصبر عليه عشرة أعوام وأكثر.

لا يهم، الأمور التي تناقش في الحياة الدنيا تبقى في الحياة الدنيا وهي، مهما طالت، قصيرة، بل قصيرة جدا، والقوة، مهما كانت فيها، فهي ضعيفة، وفوق ذي قوة القوي الدائم.

عادةً، نودع الناس بما فعلوا في الدنيا، لكننا لا نلتفت إلى الآخرة. أي أننا نمدحه بما فقده لا بما سيجد أمامه، بالذي زال، لا بما يبقى. ألاحظ دائما أن الناس تتحدث عن الشخص قيد حياته بأمور الدنيا، لكنْ بعد وفاته يتحولون إلى أمور الدين، ويبدأ الناس في تذكر أعمال البر التي قام بها، حتى ولو كان فاجرا.. بل رأيت أناسا يطرون على أشخاص عاشوا مفسدين ولصوصا، لأنهم فعلوا كذا وكذا دون أن يعلموا أنه من حرام.

قصة الموت غريبة جدا، مواجهة أخيرة بينك وبين نفسك. إنها مثل الخروج في رحلة مع أصدقاء حتى إذا توغلتم عميقا استيقظت صباحا فلم تجد أحدا، لكنْ وجدت أسدا مهاجما وانتهى الضحك والنشاط.. لا صديق ولا رفيق.

كلما صعد المرء في سلم السلطة وأصبح أكثر تحكما زاد حسابه. بقدْر عدد الناس الذين يكونون تحت سلطانك بقدر حسابك. لا شيء يضيع ولا شيء يتبخر.

تطور “الميديا” اليوم يعطينا صورة صغيرة جدا، ولله المثل الأعلى. كل المشاهد ترجع إليك وكل المكالمات تعاد. مع الموت تنتهي الحاشية والبطانة والعلاقات الدولية… أنت وربك. نحن نسأل وأنت تجيب.

في مثل هذه المواقف، عندما أسمع عن وفاة مسؤول أتذكر سيَر بعض الصالحين الذين كانوا يفرون من المناصب والمسؤوليات. من هؤلاء، مثلا، الناصري، صاحب كتاب “الاستقصا”.. أراد السلطان توليته منصب القضاء في سلا فرفض، فوسّط السلطان بعض معارف الناصري لإقناعه (السلاطين العظماء الذين يقدرون الرجال). تولى الناصري المنصب فترة قصيرة، ثم طلب إعفاءه بحجة التفرغ للتأليف.

مثل الناصري الآلاف. هؤلاء كانوا يقولون عن زمانهم إنه شر الأزمنة، فما بالك اليوم حيث يدفع المرء رشاوى بمئات الملايين مقابل منصب وحيث يقضي حياته خاضع الرقبة ومستعدا لكل عمل قذر من أجل التقرب إلى أسياده وتبييض التقارير (الألوان هنا مختلفة عن الفن التشكيلي) لكي يحظى، بعد سنوات، بمنصب قد يزيده تعبا وخنوعا.. وهكذا، يقضي حياته كلها في عذاب وضنك يحسبه البعيدون نعيما وسعادة لأن الناس تحكم بالظاهر.

اللهم نسألك حسن الخاتمة وألا تفتننا ولا تفتن بنا، فلا قدرة لنا على سؤالك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *