عبد الرزاق بوتمزار

ح. 75

ليلةٌ في بلاد بن علي..

 

غادرْنا طرابلس صباحاً على متن أبشع طائرة في العالم في اتّجاه مطار تونس- قرطاج. إلى جواري، جلس رشيد (الشّاعر) يندُب حظه العاثرَ، مثلي، لكنْ لأنه فشل، مُجدّداً، في تحقيق حلمه بالعبور إلى الضّفة الأخرى. كان يُعوّل على مالطة محطةً للتوقف عِوَض تونُسَ علّه ينجح في ما فشل فيه مرّات عديدة سابقة. ولمّا خَيَّب مسارُ الرّحلة ظنّه بدا شارداً وقد فقدَ الكثير من روح الدّعابة التي تُميّزه. أمّا أنا فندبتُ حظي الذي لم يُسعفني في العودة بإحدى جوائز مُسابَقة مُفصَّلة مُسبقاً، لكنْ لم أدرِ ولم يَدرِ معي كثيرون..

في مقعد أمامنا، جلس عبد العزيز (طالب في علم الاجتماع) ومحمد (الرّسام الذي فقدَ لوحاته أثناء رحلته السّيزيفية المُضحكة). وتفرّقَ بقية أفراد الوفد المغربي على مقاعد أخرى وسط ركاب “الطائرة”.

طفقتُ أحوقِل وأبسْمِل، طالبا من الله النجاة من هذه الرّحلة العجيبة على متن طائرة تنتمي إلى القرون الماضية. وسرعان ما انتبه محمد إلى ما أنا فيه فعاد إلى إطلاق تعليقاته السّاخرة، لتتحول إليّ أنظارُ الجميع، وهم يتبادلون، كما في رحلة الذهاب، همساتٍ وتعليقات ضاحكة، بينما “القزديرة” الليبية تُواصل تحليقها المُهتزَّ المُخيف، غيرَ عابئة بنفسياتنا المُتوجّسة المرعوبة.

عندما حطّت بنا، أخيرا، تلك المُسمّاة، ظلما وافتراءً، “طائرة”، التقط الجميع أنفاسَهم وحمدوا الله على خروجهم أحياءَ من الرّحلة الهتشكوكية المُريعة. اتّخذنا مجالسنا في مقهى المطار ريثما يُعالِج مُرافِقنا الليبيّ الأمور الإدارية لمُواصَلة رحلتنا نحو الدّار البيضاء. بعد مناقشات طويلة مع مسؤولي المطار، جاء الرّجل ليخبرنا بأنّ موعد إقلاعنا سيتأخّر وبأنهم سيتكفلون بإيجاد غُرَف لنا في أحد فنادق تونس -العاصمة ريثما تُعالَج الأمور. بعد فترة قصيرة، حضرت حافلة أقلتنا إلى فندق فخم على مشارف المطار. وما إن دخلنا غرفنا ورُحنا نرتّب فيها أشياءنا ونُفرغ حقائبنا حتى جاءنا مَن يُخبرنا بالاستعداد للعودة من حيث أتينا..

أقلتنا الحافلة، من جديد، في اتّجاه المطار؛ بيد أنّ الأمور لم تسرْ، على ما يبدو، كما ينبغي، ليخبرَنا المُشرفُ الليبيّ بأننا سنضطرّ إلى قضاء ليلةٍ في تونسَ. خيَّرَنا، هذه المرّة، بين أن يتكفل بإيجاد فندق لنا وبين إعطائنا مبلغاً ماليا يفي بالغرض ونتصرّف نحن ونجد مكانا نُمْضي فيه ليلتنا. أشار علينا رشيد، الخبير بهذه الرّحلات، بأخذ المال..

-خذوا المائة دولار، وسأتكفّل شخصياً بمسألة إيجاد فندق رخيص نقضي فيه الليلة ونُوفّر المبلغ.
قال، وهو يتفحّص وجوهنا ويستحثّنا على مُجاراته في اختياره. بعد مُشاوَرات قصيرة بين أعضاء الوفد، وقع الإجماع على مُقترَح رشيد.

وكما وعد بذلك، سار بنا عبر شوارع تونس -العاصمة وأزقتها إلى أن وصل بنا إلى حيّ شعبيّ اصطفّتْ على جنباته عشراتُ الفنادق غيرِ المُصنَّفة. عرّج بنا على محلّ لبيع الوجبات السّريعة؛ تناولنا فيه وجبة بـ”لهْريسة” الحارّة. انشغل أغلبُهم بتجريب تَناوُل وجبة بـ”الحارّ” على الطريقة التونسية، فيما ابتلعتُ أنا الأكلةَ دون هْريسة. يكفيني ما ابتلعتُ من حارّ حتى الآن؛ كنتُ أقول لنفسي وأنا أسترجع شريط هذه الرّحلة العجيبة.

دفعنا ثمنَ ما أكلنا وتبعْنا رشيد، مُرشدَنا السّياحيّ في بلاد بن علي.

تَدبّرَ لنا أمرَ غُرَف في أحد تلك الفنادق الرّخيصة بما يعادل 70 درهما مغربية. بَلَغَ مجموعُ ما أنفقنا على المأكل والمبيت حوالي 100درهم، وتوسّدنا ما تبقى من المائة دولار أمريكي في انتظار إشراق شمسِ اليوم الموالي على أرض تونس “الخضراء”..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *