عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 73

يومَ أعلنّا المْكلّخينْ مُتوَّجين!

سيشهد أحدُ مُدرَّجاتِ جامعة ناصر (لا أذكر اسمه مع الأسف، إنْ كان لديه اسم في الأصل) واحدة من المهاِل التي تؤرّخ الطرُق التي يجري بها تتويجُ المُغفَّلين على امتداد الخريطة العربية، المستعدة -ولو قسراً- لتقبّل النتائج النهائية، وإنْ كان هناك، دوما، بعضُ الرّافضين للتوافق/ التواطؤ “العْروبيّ”، المُنافق (من المحيط إلى الخليج) ما عدا استثناءات هي، لحسن الحظ، دائمة الاستعداد لأنْ تفضحَ ما يجري، من غيرِ ما طمعٍ أو تواطؤٍ، مع أنظمة أو مُؤسّسات.. سيعرف ذلك المُدرَّج واحدة من أغرب اللحظات التي تؤرّخ عبثيّة المشهد الثقافيّ العربي المُتخاذِل والشّاهدِ على أبشعِ أنواع الخُضوع والذلّ والتدليس، التي تُجبَر فيها الأطراف المُستضعَفة على تقبّل النتائج المفروضة، بفعل حسابات هي أبعد ما يكون عن الموضوعية.

عندما أعلنت اللجنة اسمَ الفائز الثالث، تحت التّصفيق -كعادتنا في مثل هذه المُناسبات- قلتُ لي إنّ اسمي سيرِد، حتماً، بين الاسمين المُتوَّجين المُتبقّيَيْن. لكن اللجنةَ ذكرت اسم الفائز بالمرتبة الثانية، ثمّ بالمرتبة الأولى، التي آلتْ إلى “قاصّ” ظللتُ، حين كان يتلو قصته، أتألم بسبب الإهانات المُتتالية التي كان يُلحقها بالعربية المسكينة، وهو يرتكب أخطاءَه وهفواتِه المُثيرة للشّفقة، والذي ظلّ، من جانبه، غيرَ مُكترث بما يقول إلى حدّ أنّني جزمتُ في لحظة بأنّه هنا فقط لكي يقرأ نصّاً ليس هو كاتبَه الأصلي!..

تبادلتُ نظرات حائرة مع مَن كانوا يُحيطون بي، غيرَ مُصدّق، ولا مُصدّقين، ما يجري. كان للجنة التحكيم رأيٌ آخر، تأَكّد أنه يسير في اتجاه معاكس لكل التوقعات. سرَت الهمساتُ بين الصّفوف، بين مُستنكر مُشكّك في مصداقيةِ النّتائج المُعلَن عنها وراض، مُحتفِل بهذا التتويج، المُنتظَر، لغير المُستحِقّين.

حين شرعتُ أعبّر عن تذمّري مما يجري، حاول بعض “الطلبة” الليبيين تطويقَ احتجاجاتي وخنقَها في المهد، حتى لا تؤثر على السّير المرسوم للأمسية، التي يبدو أنهم فصّلوها على مَقاسهم الضيّق ونظرهم محدود الأفق. لكنّي من النوع الذي إذا حدث وتملّكتني “الجّعْرَة” يصيرُ من العسير جدّا إسكاتي أو مُواجَهة زلاتِ لساني.

مدفوعا بتعليقات كثيرين ممّن شهدوا تلك المهزلة، وجدتُني أقوم من مجلسي لأبدأ احتجاجا لم تفلح جميع المحاوَلات في إنهائه ومنع تأثيره على مُجرَيات أحداث تلك الأمسية.
-والله العظيم إنكم مْكلّخينْ وتشجّعون، بإعلانكم هذه الأسماء، المْكلّخينْ أمثالَكم على حساب المُبدعين الحقيقيّين!

تزايدت حدّة الضّجيج والفوضى في المدرّج واختلطتْ أوراق السّيناريو بين أيدي أعضاء اللجنة. أحاط بي الكثير من “الطلبة” الليبيّين مُحاولين إسكاتي بشتّى الوسائل، لكنْ عبثاً. جرّبوا التّهديد والوعيد والاستعطاف وتطييبَ الخاطر؛ بيد أنّ خاطري كان قد لحِقه قدْر من الإساءة صار من المُستحيل معه إسكاتي أو إرغامي على الإحجام على ما أودّ قولَه أو فعله. لم تسلم لجنة التحكيم، المُتحيّزة، من هجومي الشّرس. كما لم تسلم من ألفاظي المسعورة جامعةُ ناصر ولا حتى النظام الليبيّ نفسُه! وصفتُه في كلامي بالمُحتضن والرّاعي الرّسمي للتّكليخْ بامتياز!

غادرتُ المُدرج، حيث كانت تتواصل المسرحية المكشوفة وأشعلتُ سيجارة وسط ساحة الكلية، يسبقني الدّخان وعاصفة من التعليقات والانتقادات اللاذعة إلى حدّ الخروج عن كلّ نصّ أو قاعدة. وبينما استمرّت حشود “الطلبة” الليبيين في محاصَرتي، لاح لي ذلك الأستاذ السّوداني من أعضاء لجنة التحكيم، الذي سبق له أن منَحني الجائزة الأولى.. استوقفتُه، حانقا، أسأله عمّا يجري، فلم يزد المسكين على مُخاطبتي قائلا، بأسف ظاهر:
-لا تسألْني عن تفسير لما حدَث، رجاء.. فوَالله إنّي، ربّما أكثرَ منك، لم أعد أفهم ما يجري هنا!

كانت كلماتُه، التي ردّد بصوت عال، كما لو ليسمعها جميع من كانوا يُحيطون بي، حافزا إضافيا شجّعني على مُواصَلة تفريغ ما في جوفي في وجه الحرَس المُتنكّرين في هيئة طلبة، الذين اشتدّ حصارهم لي إلى أن أبعدَني صديقاي رشيد ومحمد من دائرتهم..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *