عبد الرزاق بوتمزار

ح. 71

الشّيشة ومُسدّس الحرَس الجمهوريّ..

 

خلال الأيام التي سبقتْ إعلان النّتائج، حاولنا، ما أمكننا، الخُروجَ من دائرة الفندق وحرَسه، الرّسميّ والمُنْدَسّ، بين صفوف “طلبة المعاهد العليا والجامعات العربية”.

في مساء أحد تلك الأيام، غادرتُ الفندق رفقةَ محمد الرّسام، ابن المحمدية، ورشيد، “شاعر” سلا، الذي لم تكنْ بينه وبين الشّعر صلة أو قرابة إلا ما كان مِن آصرة الخير والإحسان. ما إن ابتعدنا عن البناية السّياحية ببضعة أمتار حتى وجدنا أنفسنا نمرّ إلى جوار مُصطاف عائليّ، وفق ما تشير إلى ذلك لافتة (خضراء) مُعلَّقة عند مدخل المُصطاف الفسيح.

ولجْنا شاطئ المصطاف العائلي وسرنا قرب أمواج البحر، نتنسّم هواءَ طرابلسَ المسائيَّ، بعد يوم قائظ وخالٍ من أيّ نشاط ضمن المسابَقة. ما إن لاح لي كرسيّ شاغر حتى ارتميتُ عليه، وأنا أدعو مُرافقَيَ إلى مُجالستي ومُشارَكتي كوباً من الشّاي على إيقاعات أمواج المُتوسّط، التي كانت تتكسّر بهدوء على تخوم العاصمة طرابلس. قابَل صديقايَ دعوتي بسُخرية؛ قال محمد، وهو يتطلع إليّ ببطنه المُتدلية أمام جثته الضّخمة:
-هل تظنّنا جئنا إلى هنا لكي نجلس مثل كهلَين مُتقاعدَين على أقرب كرسيّين نُصادف لنحتسيّ معك أكوابَ شاي بينما الشّاطئ يعُجّ بالدّريّاتْ!؟

وتركتهما لشأنهما؛ كنتُ في الحقيقة قد خططتُ لتجريب أمر ما خلال جلستي تلك. ابتعدا وهما يصدَحان بمقاطعَ من أغانٍ شعبية مغربية. طلبتُ “شيشةً” وإبريقَ شاي.. كانت المرّةَ الأولى التي أُجرّب فيها تدخين الشّيشة. مددْتُ ساقَي أمامي على الرّمال الدافئة واستويتُ في جلستي، وأنا أنفث دخان النّرجيلة الكثيفَ في الهواء. للحظةٍ، تخيّلتُ أجواءَ الأزمنة الشّرقية العتيقة وأسقطتُ على نفسي لبوسَ شخصية من شخصيات نجيب محفوظ، الخارجة من إحدى حارات القاهرة أو أحواش الصّعيد. استمتعتُ بنفث الدّخان، وأنا أطارد عبر فقاعاته الهُلاميّة أفكاراً شارداتٍ وخواطرَ، معظمُها أقربُ إلى ضباب الأوهام والخيال منها إلى أرض الواقع.

وإلى أرضِ الواقع أعادني رشيد ومحمد وهما يقفان، فجأة، أمامي، لاهثَيْن وقد امتقع لونَا وجهيهما وفقدَا كلياً حسَّ المرح وحالةَ “الشّباب” التي كانا عليها قبل لحظات عندما تركاني.
بكلمات مُتلعثِمة، خاطبني رشيد، مُرتعداً:
-قم من مجلسك، على الفور، ورافقنا إلى الفندق!
-حتى لا يقصدَك شخصٌ ويضع مسدَّسه على صدغك وهو يتوعّدك بالويل والثبور.
قاطعه محمد شارحاً، وفرائصُه العريضة ترتعش خوفاً ورهبة:
-إيوَا نُضْ جْمع راسكْ! أشْ كتـّسنّى؛ واشْ بْغيتِ شي واحْد يجي يْفرشخ ليكْ راسك؟!
طلبتُ من الغليظ أن يقترب مني أكثر. قلتُ له، وأنا أضحك على ما هما فيه، مرفوعاً بنشوة معسّل طرابلس:
-افعَلا كما لو كنتما لا تعرفانني وطلبتما عودَ ثقاب أو معرفة التوقيت، مثلا واسبقاني.. سألحق بكما!

تابَعا مسيرَهما، وهما يلتفتان يَمنةً ويَسرة، وأنا لا أفهم شيئاً من كلّ ما يجري حولي. محيا نشوتي بكلامهما وشوَّشَا تفكيري وأعادَا دماغي الدّائخ من علياء سُحبه. حاولتُ عبثاً أن أربط كلامهما بأحداث مُعينة قد تكون وراء ما يجري فلم أفلح. جُلتُ بنظري على الطاولات المُتباعِدة المبسوطة قبالة المُتوسّط فهيّأ لي تفكيري المُضطرب أنّ الجميع يحدجونني بنظرات غير بريئة. عند ذاك قمتُ من مجلسي، أتعثر في دوختي، وقصدتُ مُسيّري المقهى كي أدفع الحساب وأنسحبَ في هدوء.

حين هممتُ بدفع الحساب، أصرّ مُسيّرُو المكان، بعد أن عرفوا من لكنتي أنّني غريب عن الجماهيرية، على مُكوثي قليلاً كي أقاسمهم الطعام. قال أحدُهم، وهو يرفع الغطاء عن آنية كبيرة تغلي في جوفِها خالوطة جالوطة من الأسماك والخُضر وسط كمّية كبيرة من الماء:
-تفضّلْ بقبول دعوتنا لمُشاركتنا هذه الأكلة؛ أكيد أنها ستعجبُك.
نظرتُ إلى قعر الآنية فهمّتْ أمعائي بالقفز إلى حلقي. استشعرتُ رغبة مُلحّة في التقيؤ. استفزّني الخليط العجيب الذي قال إنه سيُعجبني تذوّقه. بدتْ لي خالوطتهم تلك “أَعْدَسَ” أكلةٍ يُمكن أن أتخيّلَني وأنا أبتلعها، خصوصا وقد فعل المْعسّل فعلته في دماغي. شكرتهم، بلطف، على دعوتهم وأنا أستعجل دفع الحساب (كي لا أُرسلَ ما في أمعائي إلى قاع آنيتكم بأكلتها المُعدَّسَة هذه).. قلتُ لي، وأنا أناول أحدهم بعض الدّنانير.

وقبل أن أبتعد، استوضحتُهم حول أمر السّلاح الذي رُفِع قبل قليل في وجه صديقَيّ. قالوا في الوقت نفسه تقريبا:
-لا أحدَ في هذا المُصطاف لديه الحقّ في أن يرفع سلاحا في وجه أيّ كان ما لم يكن من أفراد الحرس الجمهوريّ!

اطمأنّ بالي أكثرَ وافترّتْ شفتاي عن ابتسامة عريضة من الموقف الغريب والمُضحك الذي عاشه صديقاي المسكينان. لكنْ إن هي إلا خطوات قليلة وأنا أبتعد في اتّجاه الفندق، حتى رفضت أمعائي المُقاوَمة أكثر.. تقيّأتُ كلّ ما كان في بطني. التفتّ خلفي فإذا بأحدهم يتناول ما يُشبه مذراة وراح يقلب بها الرّمل فوق مُخلَّفاتي.

التحقتُ بهما في الفندق وانفجرتُ ضحكاً في وجه محمد، الذي ظلّ، طيلة مدة إقامتنا هنا يتباهى علينا، وهو يستعرض أمامنا عضلاته ويقول، مازحا، إنه الأقوى والأشرَس بيننا جميعا. شرحتُ لهما أنّ الشّخص الذي أشهر مُسدّسَه في وجهَيهما هو أحد أفراد الحرس الجمهوريّ وليس مواطنا عاديا، كما فهمَا. استعادا بعضَ الهدوء.

وجلسنا على حافة سريرَيْ الغرفة نسترجع، في جو صاخب، تفاصيلَ أمسية ليستْ كباقي الأمسيات التي قضينا في أرض الجماهيرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *