منذ سنوات، نعم سنوات لم أذهب إلى “منطقة الجزاء” و”شارع محمد الخامس” في الرباط القديمة والتي يطلق عليها اختصاراً “المدينة” أو “السويقة”.
بدأت الجولة من الأبواب التي تقود إلى “شارع لعلو“، في بدايته مكتب للبريد (البوستة) عندما شاهدته وإلى جانبه محل لإصلاح الدراجات النارية، تواردت صور ذهنية من “أيام الرباط الأولى”.
تتذكر دراجتك النارية في تلك الأيام، وتتذكر عندما كنت ترسل رسائل الأشواق إلى الأسرة في “خرطوم المحبة والحنين”، قبل أن تعصف بها “العسكرتاريا” و”المليشيات” و”المرتزقة”.
ثمة درب ضيق يسمى”التازي”، رصت في جوانبه أواني فخارية زرعت فيها زهور ونباتات. لأول مرة انتبهت إلى هذا الزقاق.
ثمة فندق أيضاً لأول مرة أعرف اسمه: دارنا.
لاحظت أن هناك لوحتين صغيرتين في بداية “شارع محمد الخامس”، واحدة حديدية زرقاء كتبت بالخط المعتاد، واللوحة الأخرى أسمنتية كتبت بخط مغربي.
على يمين الشارع “درب الورديغي”، يعرف حالة سكون استثنائية، وعلى يسار الشارع “درب بن عبدالله” فقط بضعة أمتار.
اكتشفت أن “السويقة” التي كنت أعرفها قد اندثرت، إذ تحولت إلى محلات للأكل .
تبدأ بمحل ثبت لافتة تقول “مأكولات خفيفة” هل توجد يا ترى هناك “مأكولات ثقيلة” ؟. محل آخر رفع لافتة تقول” بكاديوس .. الطون الحقيقي” ..تساءلت مرة أخرى : هل يوجد يا ترى طون مزيف؟.
يلفت الانتباه اسم محل بالإنجليزي يقول : “Good way “.
توقفت عند محل لعصير القصب. هذا أيضاً أعادني إلى صورة ذهنية من أيام الصبا، عندما كنا نمص”قصب السكر” ونقضمه كما تفعل الحمير.
يلفت الانتباه اسم زقاقين، الأول يسمى” زنقة الطاجين”، و الثاني “درب الكلخ ” ، وهي مفردة على حد علمي تعني “البلادة “، والمفارقة أنه زقاق طويل وأنيق.
وصل السوريون والأتراك إلى”السويقة”. هناك ” حلويات أبو محمد السوري ” و ” حلويات تركية ..عند رامي” .
بعض العاملين في محلات الأكل من السواد الأعظم الجنوبي المتجهم الأنظمة.
سلع بعض الحوانيت تدفقت فوق رصيف الشارع . الناس يتمشون على مهل، ويتفرجون على بعضهم بعضاً.
صادفت سائحيين إسبان أحدهما كان يرتدي “جلابة مغربية ” .
ثمة لافتة تقول “تعليم اللغات الحية” يا ترى ما هي “اللغات الميتة “، وما سبب موتها؟.
من اللافتات المرحة أيضا “حمام الشرفة “بالتأكيد لا يوجد ناس يستحمون في الشرفات.
من الأمكنة التي عرفتها قبل عقود “مكتبة الطالب ” التي أسسها الراحل ” عبدالقادر المكناسي”، ويتولى إدارتها حاليا ابنه خالد الذي رحب بي كثيراً، كنت أبحث عن كتاب “شرح المعلقات السبع ..للزوزني “. سالته عنه ، قال بانه كانت لديه نسخة واحدة وبيعت.
سألته لماذا تحولت”المدينة ” إلى” مهرجان أكل “، أجاب بكثير من الاستياء :” نعم تحولت إلى مائدة” .
بحثت عن “سينما موريتانيا ” التي كانت متنفساً لنا أيام الدراسة الجامعية. وجدتها اندثرت ، وتشيد في مكانها حوانيت. كم هي الأشياء التي أندثرت أيها الرجل.
كانت نهاية الجولة، التمشي في “زنقة السمارين”، توجد هنا فنادق صغيرة ، ولكل إسم قصة ، على غرار ” المسافرين ” و” المارشي ” و” الجزائر ” و”السعادة “.
تذكرت عندما وصلنا إلى المغرب في زمن مضى، كنا قد أقمنا في أحد تلك الفنادق يحمل اسم ” فندق الشعب”.
آه منك يا زمان النزوح.
طلحة جبريل: كاتب صحفي