عبد الرزاق بوتمزار

ح. 66

حُدود وهميّة وأبراج مَغشُوشة

 

بدافع اكتشاف لهجتنا المغربية، التي صدحْنا من خلالها بكلّ ما نحفظ من أغان وأهازيجَ شعبيّة، التفّ حولنا بعضُ الإخوة الليبيين، الذين اكتشفنا أنهم مُعجَبون كثيراً بأغاني عبد الهادي بلخياط ونعيمة سميح ولطيفة رأفت وغيرها من روائع ريبرطوارنا الغنائي؛ وعلى الخصوص بـ”مرسول الحبّ”، التي كتب كلماتها الشّاعر الزّجال حسن المُفتي وأدّاها بتميّز “العميد” عبد الوهاب الدّكالي.

عندما شرعْنا، رشيد ومحمد وأنا، في ترديد بعض مَقاطع هذه الأغنية، اكتشفنا كم هي وهميةٌ الحدودُ بين شعوب المغرب الكبير وكم هو باطلٌ الادّعاءُ بأنّ اللهجةَ تقف حائلاً دوننا وإيصالِ فنّنا إلى بقية شعوب المنطقة! لقد كان بعضُ هؤلاء الطلبة الليبيين يحفظون، عن ظهر قلب، مرسولَ الحب؛ بل إنّ بينهم مَن يضبطون إيقاعَ الأغنية أكثرَ من بعضِنا، نحن المغاربة.

اكتشف السّوريون، الذين كوّنوا حلقةً خاصّة بهم في منتصف الحافلة وشرعوا في ترديد مواويلهم وموشحاتهم، مدعومين ببعض الطلبة الأردنيين والعراقيين، أنه ليس بمقدورهم مُجاراة إيقاعاتنا المغربية وقدرتنا على استحضار بعض روائع ريبرطوارنا الغنائيّ، فالتحقوا بدائرتنا، التي أخذت تتوسّع شيئاً فشيئاً، إلى أن انتهتْ إلى ما يشبه حلْقة كنتُ، إلى جانب محمد ورشيد، مُنشِّطيها الرّئيسيين. وحتى لا نحتكر الميكروفون ونَظهر بمظهر المُتعصّبين لتراثنا وأغانينا، فقد كنّا نعمد إلى استحضار بعض الإيقاعات الجزائرية، العراقية أو حتى السّورية؛ تاركين الفرصةَ للآخرين كي يفرحوا معنا بمنتجهم الغنائيّ. وكان الشّاميون مَن استطاعوا أداءَ مقطوعات، لصباح فخري على الخصوص، تَجاوَب معها بقية المُتحلّقين من الطلبة، في مشهد يشِي بأنّ جميع الحُدود التي ابتلي بها أبناءُ الأمازيغ والعرب، من المحيط إلى الخليج، هي مُجرَّد تصنيفات وقيود مغشوشة ووهمية.

بخلافنا، رشيد ومحمد وأنا، حرص بعضُ الإخوة ممّن سافروا معنا ضمن البعثة المغربية على عزل أنفسِهم في شرنقة من البروتوكول والادّعاء المُصطنَع المُغلَّف بالجدية والأهميّة المُضحكتين. لم يكونوا يميلون إلى الاختلاط كثيرا بأفراد الوفود الأخرى، بل وحتى بنا نحن، بني جلدتهم. بدَا أنّهم يعيشون نوعاً من التعالي المغشوش على الجميع. ولم يتأخّر رشيد ومحمد في تصنيف هؤلاء في خانة مَن توهّموا أنهم صاروا أدباءَ كباراً ما يُحتّم عليهم الابتعاد والنظر إلى الجميع من بُرجهم العالي أو العاجي.

ظلّ اثنان من هؤلاء على الخصوص، طيلة العشرة أيام التي قضيناها في أرض الجماهيرية، بعيدَيْن عن كلّ أنواع الاختلاط، سواء بنا نحن المغاربة أو بأفراد الوفود الأخرى. أكثرَ من ذلك، وفي مثل هذه المُناسَبات التي نخرج خلالها في زيارة إلى إحدى المعالم التاريخية، كنّا نُحسّ بأنهما ينظران إلينا نظراتٍ تنِمّ عن كثير من الاستخفاف والاستهجان لانطلاقنا وتخفّفِنا من البروتوكولات. مْساكنْ، كما كان محمد يصفهما، لم يكونا يدريّان أن موقفهما هو الذي يدعو إلى الشّفقة وليس موقفنا نحن؛ ما فعلـْنا إلا كما يفعل الطلبة في تجمّع طلابي.

بعد حوالي ساعة من المسير، وصلْنا إلى لبدة. ساعدتنا الأهازيج والأغاني المُتنوعة التي ردّدناها على قطع مسافة الطريق دون أن نشعر بثقل الوقت.

على أعتاب المدينة الأثرية ترجّلْنا من الحافلة وسط لغط وضجيج الشّباب، الذين كانوا في أوجِ انطلاقهم وفوضويّتِهم؛ كما كلّ طلاب الدّنيا في مثل تلك الرّحلات الاستكشافية، ما عدا أصحاب الأبراج المغشوشة.

باستثناء بعض الأكشاك والمحلات التي كان أصحابُها يعرضون تذكارات ومشغولات يدوية محليّة، كانت المنطقة خاليّة ومسكونة بهدوء الأزمنة الغابرة.

آهِ، لبدة، لو كنتِ منطقةً في المغرب! كانتْ مدينةٌ أخرى، عامرة، ستنبُت على مشارفِك؛ لن تبقَيْ، كما حالك هُنا، معزولة عن العالم، لا يقصدكِ إلا حُفنة من السّياح وبعثة طلابية من حين إلى حين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *