إعداد: إلياس زهدي

ح. 24

قصص الحياة المدفونة (ثلاث قصص قصيرة)
تشارلز بوكوفسكي (1920 -1994)

3/ 3

أنت وبيرّتك وعظَمتك!

 

دخل جاك ووجد علبة السجائر في رفّ الموقد. آن كانت جالسة على الأريكة، تقرأ عددا من مجلة “كوسموبوليتان”. أشعل جاك سيجارة وجلس على الكرسي. كانت الساعة الثانية عشرة إلا عشر دقائق ليلا.
-قال لك تشارلي ألاّ تدخن!
قالت آن وهي تنظر من المجلة.
-أحتاج ذلك، لقد كانت ليلة قاسية.
-هل ربحت؟
-كان هناك انقسام، لكني فزت. كان بنسون صعبا وشجاعا، يقول تشارلي إن بارفينيللي هو التالي، إذا تغلبت عليه فسأنال البطولة.
قام جاك وقصد المطبخ وعاد بزجاجة بيرة.
-قال لي تشارلي أن أبقيك بعيدا عن البيرة.
قالت آن وهي تضع المجلة جانبا.
-قال لي تشارلي، قال لي تشارلي… لقد تعبت من ذلك! لقد كسبت مباراتي، ربحت 16 جولة ولي الحق في البيرة والسجائر.
-يجب أن تحافظ على لياقتك.
-لا يهمّ، بإمكاني تناول أي منها
-أنت رائع جدا، أسمعُ هذا باستمرار كلما كنتَ ثملاً، أنت رائع جداً، لقد سئمتُ سماع ذلك.
-أنا عظيم.. 16 جولة، 15 منها بالضربة القاضية، هل هناك أفضل من هذا؟
لم تجب آن. أخذ جاك زجاجة البيرة وسيجارته إلى الحمّام.
-لم تقبّلني حتى قبلة التحيّة، أول ما فعلتَ أنكَ توجّهت إلى زجاجة البيرة.. أنتَ عظيم جدا.. حسن، أنتَ شارب بيرة عظيم.
لم يجب جاك. وقف، بعد خمس دقائق عند باب الحمّام، بنطاله وسرواله التحتي في الأسفل عند حذائه، قال:
-يا يسوع المسيح!… آن… ألا يمكنك أن تضعي بكرة من المناديل الورقية هنا؟
-آسفة.
ذهبت إلى الخزانة وأعطته واحدة.

قضى جاك حاجته وخرج. أنهى بيرته وتناول واحدة أخرى. وقال:
-ها أنت تعيشين هنا مع الأفضل في العالم من فئة الوزن الخفيف/ الثقيل وكل ما تفعلينه هو التذمّر! كثير من الفتيات يرغبن في تملّكي، لكن أنتِ لا تفعلين غير الجلوس والتشكي.
-أعرف أنكَ جيّد يا جاك، بل ربما الأفضل، لكن لا تعرف كم هو مملّ الجلوس والاستماع إليك وأنت تكرر الكلام نفسَه عن عظمتك!
-أوه، لقد سئمتِ ذلك، صحيح؟
-نعم، اللعنة عليك وعلى بيرتك وعظمتكَ!
-حتى إنك لم تحضري مبارياتي.
-هناك أشياء أخرى، إلى جانب الملاكمة، يا جاك.
-مثل ماذا؟ مثل الجلوس على مؤخّرتك وقراءة مجلة كوسموبوليتان؟!
-أرغب في تنمية مداركي.
-لا بدّ أن تفعلي، فهناك الكثير من العمل عليه.
-قد قلت لك، هناك أشياء أخرى إلى جانب الملاكمة!
-ماذا؟ سميها.
حسنٌ… الفن، الموسيقى، الرسم، وأشياء من هذا القبيل…
-وهل تحسنين أياً منها؟
-لا، لكني أقدّرها.
-هراء، أنا أفضّل أن أكون الأفضل في ما أفعل.
-حسنا، الأفضل، الأحسن… يا الله! ألا يمكنك تقدير الناس بما هم عليه؟
-ماذا يكون هذا؟ ما هي حال أغلبهم؟ ليسوا سوى حلزونات ومصّاصي دماء ومحدَثي نعمة ومخبرين وقوّادين، وخدم…
-أنت تنظر نظرة دونية إلى الجميع دوما. ما من واحد من أصدقائك جيد بما فيه الكفاية! أنت عظيم جدا!
-هذا صحيح يا حبيبتي.
توجّه إلى المطبخ وخرج بزجاجة بيرة أخرى.
-أنت وبيرتك اللعينة!
-إنها من حقي، هم يبيعونها وأنا أشتريها.
قال تشارلي…
-اللعنة على تشارلي!
-أنت عظيم جدا!
-هذا صحيح، على الأقل باتي عرفت ذلك واعترفت به، لقد كانت فخورة بذلك، كانت تعرف أنه يستحق، أمّا أنتِ فكل ما تفعلين هو التذمر.
-حسن، لمَ لا تعود إلى باتي؟ ماذا تفعل معي؟
-هذا ما أفكر فيه تماما.
-حسن، نحن لسنا متزوجين، يمكنني المغادرة في أيّ وقت.
-هذا سيكون مصدر راحتنا معا.. اللعنة! آتي إلى هنا وقد هدّني التعب، بعد عشر جولات قاسيات، وأنت لا تشعرين بالسرور لأنّي كسبتها، كل ما تفعلين هو التذمر منّي.
-اسمع، جاك، هناك أمور أخرى عدا الملاكمة.. عندما قابلتكَ أعجبتُ بما أنتَ عليه، كنتَ ملاكما، لم تكن هناك أمور أخرى إلى جانب الملاكمة.
-هذا ما أنا عليه، ملاكم، هذا مجالي، وأنا جيد فيه، بل الأفضل، لقد لاحظت أنك دائما تذهبين إلى هؤلاء الذين في الدرجة الثانية، مثل توبي جورجينسون.
-توبي مُسلّ جدا، لديه روح النكتة، روح نكتة بالفعل، يعجبني توبي.
-أرقامه 1، 9 ،5.. يمكنني التغلب عليه وأنا ثمل.
-والله يعلم أنك ثمل بما يكفي.. هل تعرف كيف يكون إحساسي في الحفلات عندما ترتمي على الأرض أو تتدحرج حول الغرفة وأنت تقول للجميع: أنا عظيم، أنا عظيم، أنا عظيم! ألا تظن أن ذلك يجعلني أشعر بأني حمقاء؟!
-ربما أنت حمقاء.. إذا كان توبي يعجبك بشدة، فلمَ لا تذهبين معه؟
-أوه، لقد قلت للتو إنني معجبة به، ظني أنه مسلّ لا يعني أني أود أن أذهب معه إلى السرير.
-حسنٌ، اذهبي معي إلى السرير وقولي إنني مملّ.. لا أعرف، بحق الجحيم، ماذا تريدين؟!
لم تُجب آن. قام جاك ومشى نحو الأريكة. رفع رأسها وقبّله ثم عاد وجلس ثانية.
-اسمعي، دعيني أخبركِ عن هذه المعركة مع بينسون، يجدر بكِ أن تفخري بي، لقد أوقعني أرضا في الجولة الأولى على حين غرة. قمتُ وهجمتُ عليه في الوقت المتبقي. ضربني مجدداً في الجولة الثانية. قمت بصعوبة عند 1 -8 وأمسكتُ به من جديد. بدأتُ أكسب في الجولات القليلة الموالية. فزتُ في السادسة، السابعة والثامنة.. وأوقعته مرة في التاسعة ومرتين في العاشرة. أنا لا أسمّي ذلك فوزا بالنقط. هم يسمّونه كذلك. إنها 45 ألف دولار. هل فهمت ذلك، يا صغيرتي؟ 45 ألفا، أنا عظيم، لا تستطيعين إنكار ذلك، صحيح؟
لم تجب آن.
-هيا قولي لي إنني عظيم!
-حسن، أنت عظيم.
-جيد، هذا يروقني أكثر.
مشى نحوها وقبّلها مجددا.
-أشعر بارتياح كبير، الملاكمة عمل فني، إنها حقا كذلك، تحتاج إلى الشجاعة كي تكون فنانا عظيما وأيضا لتكون ملاكماً عظيما
-حسن يا جاك…
-حسن يا جاك.. أهذا كل ما في مقدورك قوله؟! كانت باتي تسعد دائما عندما أفوز، كنا نحتفل طوال الليل، ألا يمكنكِ أن تشاركيني عندما أفعل شيئا جيدا؟ اللعنة! هل تحبينني أم أنك تحبّين الخاسرين من أنصاف المواهب؟ أظن أنك ستكونين أكثر سعادة عندما آتيك مهزوم!
-أرجو لك الفوز يا جاك، المسألة أنكَ تضخّم كثيرا ما تفعل.
-اللعنة، إنها حياتي، عَيشي، أنا فخور بكوني الأفضل. ذلك يشبه أن تطير في السماء وتمسك بالشمس!
-ماذا ستفعل بعد أن تصير عاجزا عن الملاكمة؟!
-سُحقا! سيكون لدينا ما يكفي من المال لفعل ما نودّ فعله.
-ما عدا أن نكون معا، ربّما.
-ربما يمكنني تعلم قراءة “كوسموبوليتان” لأطوّر عقلي.
-حسن، هناك مجال للتطور.
-أرغب في مضاجعتك!
-ماذا؟!
-أرغب في مضاجعتك!
-حسن.. لم تفعل هذا منذ مدّة!؟
-بعض الرجال يحبّون مضاجعة نساء مرتبطات، أنا لا أحب ذلك.
-أظن أن باتي لا تتذمر؟
-كل النساء يتذمّرن، لكنْ أنت البطلة في المجال.
-حسن، إذن، لمَ لا تعود إلى باتي؟
-أنتِ هنا الآن.. لا يمكنني أن أكون إلا مع عاهرة واحدة في كل مرّة!
-عاهرة؟
-عاهرة!

قامت آن وتوجّهت إلى الخزانة. أخرجت حقيبتها وبدأت تضع فيها ثيابها. ذهب جاك إلى المطبخ وأتى بزجاجة بيرة أخرى. كانت آن تبكي، غاضبة. جلس ورشف من بيرته رشفة كبيرة. شعر برغبة في زجاجة ويسكي وسيجار جيّد.
-قد آتي لآخذ بقية أغراضي عندما لا تكون هنا.
-لا تزعجي نفسك، سأرسلها إليك.
توقفت عند العتبة.
-حسن، أظن ذلك سيكون جيدا.
-أظن ذلك أيضا.
أغلقت الباب ومضت. أنهى جاك البيرة وذهب إلى جهاز الهاتف واتصل بها:
-باتي؟
-أوه جاك، كيف حالك؟
-لقد فزت بمباراة كبيرة الليلة بالإجماع.. كل ما علي فعله هو أن أزيح بارفينيللي وأحصل على البطولة.
-ستتغلب عليهما يا جاك، أعرف أنه يمكنك ذلك.
-ماذا تفعلين الليلة يا باتي؟
-إنها الواحدة صباحا.. جاك، هل كنت تشرب؟
-قليلا، أنا أحتفل.
-وماذا عن آن؟
-افترقنا.. من عادتي أن أكون مع امرأة واحدة، تعرفين ذلك يا باتي.
-جاك…
-ماذا؟
-أنا مع رجل
-رجل!؟
-توبي جورجينسون، إنه في غرفة النوم.
-أوه، آسف.
-أنا آسفة أيضا يا جاك. أحببتك.. ربما ما زلت أحبك.
-أوه، اللعنة! أنتنّ النساء ترمين هذه الكلمة كيفما اتفق…
-آسفة يا جاك.

وضع السماعة، ثم ذهب إلى الخزانة ليأخذ معطفه. أنهى بيرّته وانطلق بسيارته نحو شارع النورماندي، بسرعة 65 كيلومترا في الساعة. أوقف السيارة أمام متجر للخمور في شارع هوليوود. اقتنى صندوق بيرة “مايكولوب” وعلبة من فوّار “كاسيلتزر”، ثم طلب من المحاسب خُمسية من نوع “جاك دانييلز”.
وبينما كان المحاسب يجمع الثمن، دخل سكّير ومعه صندوق من بيرة “كورز” ووجّه سؤالا لجاك:
-هيه يا رجل! ألست جاك باكينويلد الملاكم؟
-أنا هو.
-يا رجل، لقد رأيت المباراة الليلة، أنت شجاع جدا، أنت عظيم حقا!
-شكراً يا رجل.

أخذ كيس أغراضه وجلس في سيارته. نزع غطاء زجاجة “دانييلز” ورشف جرعة كبيرة. انطلق شرق شارع هوليوود. انعطف يسارا عند النورماندي. رأى مراهقة ممتلئة القوام تترنّح في الشارع. أوقف سيارته وأخرج زجاجة “دانييلز” من الكيس وأظهرها لها:
-هل ترغبين في الصعود؟
فوجئ جاك بموافقتها. أجابته:
-سأساعدك على شرب ذلك يا سيد، لكنْ من دون امتيازات إضافية.
-اللعنة، لا.
ردّ جاك.
سار في شارع النورماندي بسرعة 35 كيلومترا في الساعة. مواطن يحترم نفسه ومصنّف عالميا في المرتبة الثالثة في فئة الوزن الخفيف/ الثقيل. شعر، لحظة، كما لو أنه يود تقديم نفسه لها، لكنه غيّر رأيه ومدّ يده وعصر إحدى ركبتيها:
-ألديك سيجارة يا سيدي؟
سألت.
حرّك يده مُخرجا واحدة. قرّبها من الولاعة وأشعلها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *