عبد الرزاق بوتمزار

ح. 60

باب البحر..

ونحن نغادر المطار، على متن حافلة وضعتها جامعة ناصرفي خدمتنا، لاحظنا الفرقَ الكبيرَ بين تلك “القْزديرة” التي أقلّتنا من تونسَ إلى طرابلسَ وبين الحافلة؛ مقارنةً بتلك الطائرة كانت الحافلة أرحمَ بكثير. قلتُ لنفسي: ليت هذه الحافلةَ هي التي أوصلتْنا جواً من تونس إلى هنا!

لاحظنا، أيضاً، أنّ الطرقات، خلافاً لواقع الحال في شوارع مُدننا، تُساعد السّائق كثيراً، لكونها واسعة وتغيب عنها تلك الحُفر اللامتناهية والمَطبّات المُفاجئة والغريبة في أشكالها وأيضاً في الأماكن التي تنبُت فيها عبْر طرُق المملكة. فوق ذلك، كانت الحالة الميكانيكية للحافلة جيّدة والسّائق بارعاً.

على امتداد الطريق بين المطار والفندق حيث تَقرّرَ أن نُقيم، أذهَلنا ذلك الكمّ الهائلُ من اللوحات والإشارات التي تنتصب على جوانب الطرقات مُتضمّنةً فقراتٍ مُقتطَفةً من “الكتاب الأخضر” الشّهير. كان الأمرُ لافتاً للنظر إلى درجة أنّ أحد الظرفاء من مُرافَقينا علّق بسخرية: “بدل إشارات المرور نصَبوا على جنبات الطرق والشّوارع ما يُذكّر مُستعمليها بأنّ القانون الوحيدَ هنا والأجدرَ بالاحترام هو قانون الكتاب الأخضر، دون غيره!

حجزوا لنا في فندق “باب البحر” جناحا خاصّا. توزّعنا على غُرَفه، مثنًى وثُلاثاً. التقينا هناك بطلبة وفود بلدان “عربية” جاؤوا، بدورهم، ساعين وراء جائزة القذافي.. كان هناك طلبةٌ من جامعات الجزائر وموريتانيا والسّودان والأردن؛ فيما اقتصر وفد العراق على طالبَين فقط، ربّما بحكم أنّ البلاد كانت تعيش تداعيات حرب الخليج، التي كانت أخبارُها المُروِّعة تصلنا، كلّ حين، حاملةً أنباءَ الفجيعة التي كانت تلحق بأبناء الشّعب العراقي على أيدي جنود الغزو الغربي المُتوحّش بقيادة أمريكا -بيل كلينتون.

في بهو الفندق، جلسنا، رفقةَ المشرفين على النّزل ومسؤولين عن البعثات، الذين تعاونوا على إجراءات تسجيل أسمائنا في سجلات “باب البحر”، مُحدّدين لكل اثنين أو ثلاثة منّا رقم الغرفة المُخصّصة لهم.

تقاسمتُ الغرفة مع صحافي شاب من مدينة فاس؛ قدّم لنا نفسَه على أنه مُدير جريدة محلية تلقّى دعوة لتغطية الحدث الطلابيّ. كان الفندق من صنف أربعة نجوم، على ما أذكر. غرفه نظيفة ومُجهَّزة بمختلف وسائل الرّاحة، بما فيها تلفزيون بشاشة عريضة. لكنْ سرعان ما اكتشفنا أنّ ما يلتقطه الجهاز الضّخم من برامجَ وفقرات لا يتجاوز حدودَ الجماهيرية، المحروسة على ما يبدو، بعسَسٍ من نوعٍ آخرَ لم يكونوا يسمحون لعقول الرّعايا بأنْ تسرح أبعدَ ممّا هو مقبول.

مشكلة أخرى لم نتأخّر في اكتشاف وُجودها في الفندق “المُصنَّف”: الماء! استنتجنا ذلك من خلال مُحاوَلاتنا الأولى الاستحمامَ من تعب ذلك السّفر المُريع الذي انتهى بنا إلى هنا، وتحديداً في مرحلته الرّابطة بين تونس وطرابلس. كان الماء ينقطع عن الصّنبور ونحن تحت الدش، ليعاود الظهور، إنما بقوة ضخٍّ ضعيفة، إلى درجة أننا كنّا نقضي أوقاتاً طويلة ونحن ننتظر عودة المياه إلى الصّنبور لنكمل استحمامنا.

من حُسن حظنا أنّ الفصلَ صيفٌ والجوَ حارّ جداً هناك وإلا كنّا سنصابُ، حتماً، بنزلة بردٍ عقِب كلّ استحمام، بحكم اضطرارنا إلى الانتظار مُدداً طويلة تحت صنابيرَ تحضر فيها المياه وتغيب تبعاً لرغبتها ومزاجها الخاصّ. أما في ما يخصّ ماء الشّرب فقد وُضِعت تحت تصرّفنا قنينات من الماء المعدني لتفيّ بغرض إطفاء عطشنا، الذي زاده المناخُ الجافّ لطرابلس إلحاحاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *