إعداد: إلياس زهدي

ح. 23

قصص الحياة المدفونة (ثلاث قصص قصيرة)
تشارلز بوكوفسكي (1920 -1994)

3/2

زهور قبالة السّتارة

 

استرجعنا ذكريات عن نساء اختلسنا النظر إلى سيقانهنّ وهن يترجلن من السيارات. نظرنا من النوافذ ليلا آملين رؤية شخص يمارس الجنس، لكننا لم نرَ أحدا. في إحدى المرات، شاهدنا زوجا في سرير يهمّ بامرأته وفكرنا في أننا سنراه الآن، لكنها قالت: “لا، لا أريد الليلة!” ثمّ أدارت له ظهرها. أشعلَ سيجارة ورحنا نبحث عن نافذة جديدة.
-ابن العاهرة، ما من امرأة كانت لتفعلها معي!
-ولا أنا، أيّ نوع من الرجال كان هذا؟!

كنا ثلاثة: بالدي، جيمي وأنا. كان الأحد يومَنا الأهم، التقينا في منزل بالدي وركبنا الترام المتجه إلى الشارع الرئيسي. كانت الأجرة سبعة سنتات. كان الفوليز والبيربانك آنذاك من المرابع التي تُقدّم عروضا هزلية محببة إلينا؛ فتوجّهنا إلى بيربانك. جرّبنا صالة السينما القذرة، لكن المشاهد لم تكن كذلك والحكايات كانت متشابهة: تثمل فتاة صغيرة بريئة على يد مجموعة من الرجال، وقبل أن تصحو من سكرتها تجد نفسها في مبغُوك. يدقّ بابها طابور من البحّارة والحُدب، إضافة إلى متبطلين يرتادون تلك الأماكن ليلا ونهارا، يبولون على الأرض ويشربون النبيذ ويطأ أحدهم الآخر. كانت نتانة البول والخمر والقتل لا تطاق. ذهبنا إلى بيربانك.
-هل أنتم ذاهبون إلى عرض المنوّعات اليوم يا أولاد؟
يسأل جدّ بالدي.
-أوه، لا يا سيدي، علينا إنهاء بعض الأمور.

ذهبنا، كما في كل يوم أحد، في الصباح المبكر، قبل أن يبدأ العرض بوقت طويل. ذرعنا الشارع الرئيسي جيئة وذهابا، باحثين عن حانات فارغة، حيث فتياتها الجميلات يجلسن عند المداخل، بتنانيرهنّ المرفوعة، يُمدّدن كواحلهنّ في ضوء الشمس المنجرف نحو الحانة المظلمة.
بدت الفتيات جميلات. لكننا عرفنا، سمعنا: يدخل رجل ليطلب شرابا فيفرضون عليه دفع ثمن مشروبه ومشروب الفتيات، لكن مشروب الفتيات مخفف بالماء. ستحصل على لمسة أو اثنتين، وهذا كل شيء. إذا عرضت أيّ مال فسيراه الساقي وسيسخرون منك ويطردونك من الحانة وتكون نقودك قد ذهبت هباء. كنّا نعرف ما يحدث هناك.
بعد نزهتنا على طول الشارع الرئيسي، دخلنا محلّ السجق واشترينا بعضه بثمانية سنتات وكوبا كبيرا من البيرة الجذرية بخمسة سنتات. كنا نرفع الأثقال بعضلات منتفخة ونرتدي قمصانا بأكمام ملفوفة إلى أعلى وكلّ منا يحمل علبة سجائر في جيب صدره. جرّبنا دورة تشارلز أطلس1، توتر حيوي، لكنّ رفع الأثقال بدا الطريق الأكثر وضوحا وصرامة. لعبنا بآلة البينبول ونحن نتناول السجق ونشرب البيرة2، بنس واحد لكل لعبة. يجب أن نكون على معرفة جيّدة بآلة البينبول. عند إحرازك مجموعا كاملا تفوز بلعبة مجانية. كان علينا أن نحرز هذا المجموع لكنْ لم يكن لدينا المال.
كان فرانكي روزفلت رئيسا حينذاك وبدأت الأمور تتحسّن رغم الكساد؛ فآباؤنا جميعهم كانوا عاطلين عن العمل، ولولا أعيننا الثاقبة التي التقطت كل شيء ملقى على الأرض لكان حصولنا على مصروفنا القليل لغزا.
لم نسرق، بل تقاسمنا واخترعنا ببعض المال أو من دونه ألعابا صغيرة لتزجية الوقت؛ مثل التنزه نحو الشاطئ والعودة. عادة ما كان ذلك في الصيف. ولم يتذمر أهلنا قطّ من عودتنا مساء متأخرين عن وجبة العشاء. كما لم يهتموا بالدمامل اللامعة في أسفل أقدامنا. وبعد رؤيتهم نعال أحذيتنا المهترئة كانوا يرسلوننا إلى متجر رخيص لإصلاح الأحذية بسعر معقول.
كان ذلك يشبه لعبنا الكرة في الشوارع. لم تكن هناك أموال عامة تُنفق على ملاعب الأطفال. كنا شديدي البأس، لعبنا الكرة في الشوارع في كل المواسم، وأيضا، كرة السلة والبيسبول. وعندما يتم الإمساك بك على الأسفلت، تحدث أمور عدة، يتمزق الجلد وتصاب العظام برضوض وتسيل الدماء، لكننا نقوم كما لو أن شيئا لم يكن.

لم يهتمّ أهلنا أبدا بدماملنا ودمائنا وكدماتنا. كان الذنب الرهيب الذي لا يُغتفر أن تُحدث ثقبا في واحدة من ركبتَي بنطالك؛ لأنه لم يكن هناك سوى بنطالين لكل صبي: بنطاله اليومي وبنطال يوم الأحد، وليس بمقدور الواحد منا البتّة أن يُحدث ثقبا في إحدى ركبتي بناطيله. سيُظهره ذلك فقيرا وغبيا وأهلك كذلك. لذلك تعلمت أن أمسك بالولد دون أن آقع على أي من ركبتَي. وتعلم الصبي الذي يتم الإمساك به ألاّ يقع على أيٍّ من ركبتيه.
كنّا حين نتشاجر يستمرّ شجارنا ساعات ولا يفعل أهلنا أي شيء لإنقاذنا. أظن أن السبب هو تظاهرنا بالقوة وشدة البأس وتمنّعنا عن طلب المساعدة. كانوا ينتظرون منا أن نطلب نجدتهم، لكننا كرهنا أهلنا وهم كرهونا. يخرجون إلى شرفاتهم وينظرون إلينا غير مبالين، في حمأة شجار رهيب لا ينتهي. يتثاءبون ويتناولون إعلانا ملقى أرضا ثم يعودون إلى أماكنهم.

ذات يوم، تشاجرت مع صبي انتهى به الأمر، لاحقا، في البحرية الأمريكية. تشاجرت معه من الثامنة والنصف صباحا إلى ما بعد غروب الشمس. لم يوقفنا أحد رغم أننا كنا على مرأى باحة بيته الأمامية، تحت شجرتي فلفل ضخمتين وعصافير الدوري تتغوط فوقنا طوال اليوم. كان أقوى مني وأكبر سنا بقليل وأثقل وزنا. لكني كنت أكثر جنونا. توقفنا عن القتال الشرس باتفاق مشترَك. لا أعرف كيف وقع ذلك، يجب أن تجرّبه لتتمكن من فهمه؛ إذ بعد أن يتشاجر اثنان ثماني أو تسع ساعات تنشأ بينهما أخوة غامضة.
في اليوم الموالي كان جسدي مليئا بالكدمات الزرقاء. لم أستطع الكلام وكنت أشعر بالألم خلال تحريك أي عضو من أعضائي. ممدّدا على السرير، جاهزا للموت، وقفت أمي أمامي ملوّحة بقميصي الممزق الذي ارتديتُ في الشجار وقالت:
-انظر، ثمّة بقع دم على القميص! بقع دم!؟
-آسف!
-لن أستطيع إزالتها أبدا، أبدا!
-إنها بقع دمه.
-لا يهم! إنه دم.. تصعب إزالته!

كان الأحد دائما يومَنا الخفيف الهادئ. ذهبنا إلى بيربانك حيث يُعرض أولا فيلم سيئ وقديم جدا، وأنت عليك أو تشاهد وتنتظر. كنت مشغول الذهن بالبنات. عزف الرجال الثلاثة أو الأربعة في حفلة الأوركسترا بصوت مرتفع. ربما لم يعزفوا عزفا جيدا لكنهم عزفوا بصوت مرتفع. أخيراً، خرجت المتعرًيات وخطفن طرف الستارة كما لو أنها رجل ورحن يهزهزن أجسادهنّ ويواصلن الرّهز أمامها. تأرجحن وشرعن يتعرّين. لو كان لديك ما يكفي من المال كنتَ حظيت بكيس من الفشار، وإن لم يكن لديك، فإلى الجحيم.
ثم، في الاستراحة، قبل الفصل التالي، قام رجل صغير، وقال:
-سيداتي سادتي، أودّ أن ألفت عنايتكم…
كان يبيع خواتم برّاقة. تابع:
-إذا رفعت خاتما نحو الضوء فسترى في الزجاجة صورة رائعة. هذا كان نصيبكم! ثمن الواحد منها خمسون سنتا، ملكية مدى الحياة فقط بخمسين سنتا، متاح لمرتادي بيربانك ولن يباع في أي مكان آخر.
وواصل :
-فقط ارفعوه نحو الضوء وسترون! وشكرا، سيداتي وسادتي لطيب متابعتكم، الآن سيعبر الحُجّاب الممرات في ما بينكم.
ثم عبر متبطلان، بأسمال بالية، الممرات. فاحت منهما رائحة النبيذ، وقد حمل كل واحد منهما كيسا من الخواتم. لم أر شخصا يشتري واحدا منها. أتخيل مع ذلك أنك إذا رفعت واحدا نحو الضوء فستكون الصورة في الزجاج لامرأة عارية.
عادت الفرقة تعزف من جديد وأزيحت الستائر. ظهرت منشدات، أغلبهن متعريات سابقات تقدّمن في السنّ، يضعن ماسكارا كثيفة وحمرةَ خدود وشفاها ورموشا مستعارة. حاولن، بأقصى جهدهن، مجاراة الموسيقى لكنهن كنّ، دوما، متأخرات قليلا. واصلنَ رغم ذلك، وجدتهنّ شجاعات جدا.
ثم ظهر مغنّ يصعب الإعجاب به. غنّى، بصوت مرتفع، عن الحب الضال. وحين انتهى، فرد ذراعيه وأحنى رأسه لموجة محدودة من التصفيق.

ثم حان دور الكوميدي، وكان جيدا! خرج مرتديا معطفا قديما بُنّيَ اللون ويضع قبعةً مشدودة على عينيه. يمشي مترنّحا مثل سكّير لا شيء لديه ليفعله ولا مكان ليذهب إليه. يتابع بعينيه فتاة تمشي على الخشبة ثم يلتفت إلى الجمهور ويفتح فمه الخالي من الأسنان:
-حسنٌ، سأكون بغيضا!
تخرج فتاة أخرى إلى الخشبة. يمشي نحوها ويضع وجهه قريبا من وجهها ويقول:
-أنا رجل عجوز، تجاوزت الرابعة والأربعين لكنْ عندما يتحطم السرير أقع أرضا.
وفعلَها! كم ضحكنا جميعنا! كانت هناك فقرة عن حقيبة، يحاول الرجل مساعدة فتاة في حزم حقيبتها والملابس تهرب منها باستمرار.
-لا أستطيع إدخالها!.
-دعيني أساعدك!
-هي تخرج مجددا!
-انتظري، سأقف عليها.
-ماذا؟ أوه… لا… لا تقف فوقها!
استمرا مع حقيبة السفر أكثر وأكثر. أوه، كم كان مسلياً!

وأخيرا، خرجت أول ثلاث أو أربع متعريات مرّة أخرى. كان لكل منا متعرّيته المفضلة ووقعنا في الحب. اختار بالدي فتاة فرنسية نحيلة، مصابة بالربو، لها تغضنات داكنة تحت عينيها. وأعجب جيمي بالمرأة النمر (النمِرة للدقة) والذي لفت انتباهه إليها أن نهديها أكبر من نهود الأخريات قطعا، أما متعريتي فكانت روزالي.
كانت لروزالي مؤخّرة عريضة تهزّها وتغني أغاني مسلية قليلا. وحين تمشي وتتعرّى، تتحدث إلى نفسها وتقهقه. كانت الوحيدة التي تستمتع بعملها. أحببت روزالي وفكرت، أحيانا، في الكتابة إليها وإخبارها عن مدى عظمتها، لكنْ لسبب ما، لم أقدم على ذلك.

ذات يوم، في وقت الأصيل، كنا ننتظر الترام بعد العرض. وكانت المرأة النمرة تنتظر أيضا، مرتديةً فستانا أخضر ضيقا. وقفنا ننظر إليها.
-إنها فتاتك جيمي، المرأة النّمِرة!
-يا ولد، حصلت عليه، انظر إليها!
-أنا ذاهب لأتحدث إليها.
قال بالدي.
-إنها فتاة جيمي.
-لا أود التحدث إليها.
قال جيمي.
-أنا ذاهب.
قال بالدي وهو يضع سيجارة في فمه. أشعلها ومشى نحوها.
-مرحبا، عزيزتي!
قالها مبتسما.
لم تجب المرأة النّمرة. حدقت أمامها مباشرة، منتظرة الترام.
-أعرف من تكونين.. لقد رأيتُ تعرّيك اليوم، لقد فعلتِها يا عزيزتي، حقيقةً فعلتِها!
ولم تجب المرأة النمرة.
-لقد أثرته حقيقة، يا إلهي! لقد أثرته حقيقة!
حدّقت أمامها. وقف بالدي يبتسم لها كالأبله ويقول:
-أود أن أضعه لك.. أود أن أضاجعك يا عزيزتي.
تقدّمنا وجذبنا بالدي وسحبناه في الشارع.
-أنت أحمق، ليس لديك الحق في أن تكلمها بتلك الطريقة.
-حسن. لكنها قامت وهزّته، قامت أمام الرجال وهزته!
-إنها تحاول كسب لقمة عيش.
-إنها حارة، إنها حمراء حارة، إنها ترغب فيه!
-أنت مجنون!
سحبناه بعيدا في الشارع.
وسرعان ما بدأتُ أفقد الاهتمام بتلك الآحاد في الشارع الرئيسي. أظن أن الفوليز وبيربانك لا يزالان هناك بالطبع، والمرأة النمرة والمتعرية المريضة بالربو وروزالي، روزاليتي، ذهبن منذ وقت طويل، ربما فارقن الحياة، وربما تكون مؤخرة روزالي الكبيرة الهزّازة قد ماتت.

حين أكون في الجوار، أقود سيارتي وأمرّ بالمنزل حيث كنت أسكن. أرى الغرباء يعيشون فيه الآن. كانت تلك الآحاد جميلة، أغلبها كان جميلا. ضوء خفيف في ظلمة تلك الأيام الكئيبة التي كان آباؤنا يعبُرون فيها الشرفات الأمامية، عاطلين عن العمل وضعفاء ينظرون إلينا ونحن نتشاجر، ثم يدخلون ليحدّقوا في الجدران. يمتنعون عن تشغيل المذياع خشية ارتفاع فاتورة الكهرباء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *