عبد الرحيم التوراني

 

يوم أمس، من نافذة الترمواي شاهدته يجلس وحيدا على مقعد في الشارع، يتأمل العابرين. ربما كان يحدّث نفسه عما جرى. كانت اللقطة بكاميرا الموبايل مضبَّبة وبعيدة. هو الذي أمضى العمر بعيدا عن موطنه القصي في آسيا، وبالتحديد في شبه “قارة” الهند، حيث وصل مع الواصلين من مواطنيه في سن الشباب إلى المغرب. يذكر أن الأعداد الأولى من جالية بلاد غاندي وصلت في أربعينات القرن الماضي، عبر ميناء طنجة الدولية، ومنها الى العاصمة الاقتصادية.

أعرف هذا الشيخ الهندي منذ عقود خلت. لم تتبدل ملامحه كثيرا، رغم تقوس ظهره وانحناء كتفيه. كان تاجرا في الملابس الجاهزة، الحرفة المزدهرة زمنا، والتي كان يسيطر عليها الهنود في الستينيات والسبعينيات، بل حتى الثمانينيات من القرن الماضي. كانت متاجرهم تحتلّ شارعَي محمد الخامس والأمير م. عبد الله. كثيرون كانوا يقتنون ملابسهم من عند التجار الهنود، وأذكر أني صادفت ذات مرة المفكر محمد عابد الجابري رفقة زوجته أمينة يقيس “كوستيم” رماديا في سدة متجر هندي في شارع محمد الخامس.

كنت دائما أتساءل عن هؤلاء الهنود القاطنين بمدينتنا، لا تراهم إلا صامتين خلف الواجهات الزجاجية لمحلاتهم الأنيقة. كلامهم قليل وابتسامتهم بخيلة، أو تصادفهم عابرين مسرعين في اتجاه منازلهم مساء. تميزهم من سحناتهم شديدة الدكنة ومن مرافقتهم نساءهم بالنقطة الحمراء على جباههن، بأزياء “الساري” الحريرية. المرة الوحيدة التي طلع فيها على السطح اسم مواطن من الجالية الهندية القاطنة بالدار البيضاء كان اسم نصاب هندي محترف، كأنه خارج من أحد أفلام “الأكشن” البوليودية، عندما احتال على مالك أروقة “ألفا 55″، رجل الأعمال، المرحوم محمد بنغانم، في عملية نصب مافيوزية اهتمّت بها الصحافة وقتذاك على صفحاتها الأولى، حدث ذلك في الثمانينيات.

سميتهم مرة بالجالية السرية، لا انصهار في المجتمع ولا أنشطة فنية وثقافية تعرّف بتراث بلدهم العظيم. أما جمعية الصداقة الهندية -المغربية فيكاد نشاطها يكون “سريا” أو لنقل منعدما.

قبل أعوام، فُتحت في زنقة المقري، حيث سينما “ريالطو” الشهيرة، حانة هندية باسم “مهراجا” كانت تقدم، إلى جانب المشروبات، أكلات خفيفة من المطبخ الهندي، لكن ما لبث “المهراجا” أن سلخ جلده ليتحول إلى بار من الدرجة الرخيصة، يعجّ بالصخب والعتمة، متخصص في تقديم قنينات الروج والبيرة الشعبية “الستورك”. في الوقت الذي يستمر مطعم هندي باسم “كلاي أوفن” في حي ريفيرا (هل من الصدف أنه يقع في “شارع غاندي”؟) بالإضافة إلى ثلاثة مطاعم أخرى، أغلب روادها هنود. كل ذلك وسط انتشار المطاعم الصينية والفيتنامية وتناسل مطاعم “السوشي” اليابانية و”البيتزا” الإيطالية، ناهيك عن “الشامية” و”التركية”.

حضور الثقافة الهندية في المغرب كان طاغيا ولافتا في فترة الستينيات والسبعينيات، من خلال السينما والأغنية. وكان المرحوم إبراهيم السايح يقوم بدبلجة الأفلام الهندية إلى الدارجة المغربية، سابقاً -بعقود- الدبلجة الركيكة للقناة الثانية لمسلسلات الأتراك، بل إن بعض دور السينما كانت متخصصة فقط في عرض إنتاجات أستوديوهات بوليوود، وعلى رأسها قاعة “أوبرا”، التي صارت طللا وخرابا ينتظر الردم..

لذلك ظلت “الهْندية”، التي تطلق على فاكهة الصبار في المغرب، هي ما يذكّرنا بالهند في الصيف، رغم أن هذه التسمية تعود إلى المنبت الأول لتلك الفاكهة الشوكية، وهو أمريكا الجنوبية، ما يفيد بأن القصد هم الهنود الحمر، وبذلك نعيد حكاية الرحالة كريستوف كولمبوس وأصحابه لما وصلوا إلى شواطئ “العالم الجديد” قبل خمسة قرون وظنوا أنهم رسوا في جزر الهند الشرقية.

صورة هذا المعمّر الهندي جالسا وحيدا، أمامه عكازته المثلثة، يحسب عدد مرات عبور الترامواي في الاتجاهين، هي تعبيرٌ صارخ عن بوار تجارة الهنود في تسويق الملابس الجاهزة، بعد اختراق السلع التركية والصينية لهذا المجال التجاري، الذي لم يعد مربحا بعد سيطرة تجار “البالْ” في سوق القريعة وجوطية درب غلف وسوق ولد مينة في الحي الحسني.

لم يعد للهندي البيضاوي مَن يساومه.. ويظهر أن أبناء هذه الجالية الأسيوية يفضّلون الهجرة الى إنجلترا أو العودة إلى بلاد الأجداد.

الأخبار تقول إن الهنود انتقلوا من شارع محمد الخامس، الذي تقهقر ولم يعد يمثل أناقة ونظافة وسط المدينة، خاصة بعد أن اخترقته سكة الترامواي، ليتجهوا صوب الضاحية الجنوبية للدار البيضاء، إلى برج “تكنوبارك”، حيث تم إنشاء مركز للتميز في تكنولوجيا المعلومات والاتصال.. حدث ذلك قبل خمس سنوات، إثر توقيع اتفاق بين الحكومتين المغربية والهندية،ج لتأسيس مركز للتكوين يضطلع بتشجيع نقل المعرفة والخبرة الهندية في مجال تكنولوجيا المعلوميات والاتصال، من خلال الإسهام في الجهود الرامية إلى تلبية حاجيات هذا القطاع من الموارد المؤهلة وتحسين فرص العمل للطلاب المغاربة.

لكنّ أخبار هذا المركز تكاد لا تصل، ربما بسبب عدوى الصمت والتواري والسّرية التي تميزت بها جالية بلاد “بَهارات”، الاسم المرادف لموطن غاندي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *