عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 59

سأعودُ مشياً!..

 

فكرةٌ واحدة سيطرتْ على تفكيري وأنا مُعلَّق بين السّماء والأرض: إذا حدثَ ووطأتْ قدماي سطحَ الأرض بسلام مرّة أخرى فعليّ أن أعُدّ ذلك ولادةً جديدة وأحمد عليها اللهَ كثيراً.

يصعب عليّ نقلُ هذه التّجربة المريرة بحذافيرها وتصويرها كما عشتُها؛ لكنْ دعوني فقط أخبرْكم بأننا كنّا نشعر وكأنّنا على متن حافلة من النوع الرّديء تطير بنا في سماء الله العالية! كانت المركبة تهتزّ بنا وكأنّها تسير على الأرض تماماً، إلى درجة أنّني كنتُ أشعر بـ”فراملَ” تلك الطائرة كأنها فراملُ أسوأُ حافلة من تلك الحافلات المجنونة التي تجوب طرقات بلادنا السّعيدة. وما زاد الأمر سوءاً أنّني كنت قريبا من نافذة زجاجية صغيرة أستطيع من خلالها رؤية سطح الأرض نسبياً “بوضوح”.

وبالنظر إلى ما سمعنا ونحن في بداية الرّحلة، فإنه ليس غريباً وأنتَ على طائرة “الإخوة” أن تتراءى لك الأرض واضحةً، مقارَنةً بما ستبدو لك عليه الأرض نفسُها وأنت على متن أيّ طائرة أخرى من طائرات العالَم.

“نحن نُحلّق على بعد 5 آلاف متر عن الأرض!”.. أصرّ الصّوت الرّجاليّ الخشنُ على تذكيري. آهٍ أمّي، إنه بالضّبط نصفُ المسافة التي كانت تفصلنا عن هذه الأرض ونحن على متن الطائرة التّونسية قبل ساعات..

عند هذه النّقطة من شريط استرجاعي لائحةَ الفروق الواضحة بين التحليق عبر خطوطٍ حُرّة وأخرى مُحاصَرة، لم أجد مناصاً من التأكيد لرفاق الرّحلة المزغوبة أنّ ضُلوعَنا ستتفتّت، لا محالةَ، على الأرض بعد أن تتهاوى بنا إلى الأسفل أغربُ طائرة يمكن أن يركبها إنسانٌ في حياته.

لكنّ وُجود رشيد (المُجرِّب) إلى جانبي ساعدني كثيراً في تجاوز محنتي وفُوبيا خوفي الرّهيب من الأجواء العالية!

وشيئاً فشيئاً، بدأتُ، بدوري، ألقي مُستملحات حول الموقف الذي كنّا فيه، خُصوصاً وقد اكتشفتُ أنْ ليس جميعُ مَن كانوا معي على متن الرّحلة بالقدْر نفسه من الشّجاعة الذي يُحاولون أن يَبدُوا عليه. كان كثيرون منهم مُتوتّرين مثلي تماماً، وربّما أكثر، لولا أنّ قدراتنا على إظهار عكس ما نُبطن لا تُضاهى..

قلتُ لرشيد، مازحاً وجادّاً في الآن نفسه، إنّني مُستعدّ لأنْ أعود مشيا خلال رحلة العودة إن هُم خيّروني بين ذلك وبين ركوب هذا النّوع من “الطائرات” مجددا! وعندما حطّت بنا الطائرة، أخيراً، على أرض العقيد، احتجتُ إلى وقت طويل كي أستوعب أنّني قد خرجتُ بالفعل حيّاً من التّجربة!

وجدْنا مُنتدَباً من لجنة المُسابَقة في انتظارنا في بهو المطار. وإجراءات التّسجيل وختمُ الجوازات وعبور الجمارك في المطار “الأخضر” حكاية أخرى!.. ما زلتُ أحتفظ ببعض الوثائق والبطائق التي طُبِع فيها اسمي بأغرب طريقة يمكن يتخيّلها إنسان. وإذا كنتُ، في البداية، قد أرجعتُ ذلك إلى صعوبة كتابة اسمي العائلي، فإنّني، مدفوعاً بفضول مُتمكّن، راجعتُ وثائقَ بقية مرافقِي لأكتشف أنّ سنوات الحصار الطويلة على الجماهيرية أثّرت، كذلك، على قدرة رجال الأمن والجمارك هناك على التعامل مع اللغة في أبسط حالاتها واستعمالاتها، كتابة أسماء المسافرين خالية من… الأغلاط!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *