إعداد: إلياس زهدي

ح. 22

قصص الحياة المدفونة (ثلاث قصص قصيرة)
تشارلز بوكوفسكي (1920 -1994)

3/1

سارت إدنا في الشارع حاملة حقيبتها الخاصة بالبقالة، عنyدما مرّت بالسيارة. رأت لافتة على النافذة الجانبية مكتوباً عليها: “مطلوب امرأة”. توقفت. وجدت قطعة كرتون كبيرة ملصقة على النافذة، أغلب حروفها مطبوعة بالآلة الكاتبة. لم تستطع قراءتها من مكان وقوفها على الرصيف. فقط ميّزت الحروف الكبيرة “مطلوب امرأة”. كانت سيارة جديدة باهظة الثمن. سارت إدنا فوق العشب محاوِلة قراءة الجزء المطبوع: رجلٌ في التاسعة والأربعين من عمره. مطلّق. يرغب في لقاء امرأة بغرض الزواج، يجب أن تكون بين الخامسة والثلاثين والرابعة والأربعين من العمر. تحب مشاهدة التلفزيون والرسوم المتحركة. تجيد الطبخ. أعمل محاسبا في وظيفة مضمونة. أملك رصيدا في المصرف. أحب النساء اللواتي تميل أجسادهن إلى الامتلاء”.

وكانت إدنا ممتلئة الجسم وفي السابعة والثلاثين من عمرها. كان مع الإعلان رقم هاتف السيد الباحث عن المرأة وثلاث صور له. ظهر رزينا إلى حد بعيد في البذلة وربطة العنق، بليدا، وقاسيا قليلا. “مصنوع من الخشب”، فكرت إدنا، “مصنوع من الخشب!؟”..

واصلت سيرَها، وقد علت وجهَها ابتسامة خفيفة وشعور بالاشمئزاز. وبعد وصولها إلى البيت نسيت أمره. ثم، بعد بضع ساعات، وهي جالسةٌ في حوض الاستحمام، فكرت في مدى صدق شعوره بالوحدة إلى درجة أنه يُقدم على فعل شيء مثل “مطلوب امرأة”. تخيّلته عائدا إلى المنزل ليجد فواتير الغاز والهاتف في صندوق البريد. يخلع ثيابه ويستحم، يشعل التلفزيون ثم يقرأ صحيفة المساء. يقصد المطبخ ليعد طعامه، بسرواله القصير، محدقا في المقلاة، حاملا طعامه متجها به نحو الطاولة. يتناوله، ثم يحتسي قهوته. وربّما علبة بيرة واحدة قبل النوم، هناك ملايين الرجال مثله في أمريكا.

تركت إدنا حوض الاستحمام ملتفعة بمنشفة. ارتدت ملابسها وغادرت شقتها. كانت السيارة لا تزال في مكانها. دوّنتْ اسم الرجل، جو لايت هيل، ورقم هاتفه. قرأت القسم المطبوع مجددا: “رسوم متحركة”. أيَّ تعبير غريب استخدم! يقول الناس هذه الأيام: “أفلام”، أمّا لافتته فكانت شديدة الوضوح “مطلوب امرأة”، يا له من مبدع!

عادت إدنا إلى البيت وشربت ثلاثة فناجين من القهوة، قبل أن تتصل به. ظل الهاتف يرن.
-مرحبا.
أجاب.
-السيد لايت هيل؟
-نعم؟..
-قرأت إعلانك على السيارة…
-أوه، نعم.
-اسمي إدنا.
-كيف حالك إدنا؟
-أنا بخير، الجو حار جدا، الطقس لا يطاق.
-فعلا، إنه يجعل الحياة صعبة.
-حسنٌ سيد لايت هيل.
-نادني جو فحسب..
-حسنٌ، جو، هاهاها.. الوضع يبدو لي مجنونا.. هل تعرف سبب اتصالي؟.
-لأنك قرأتِ لافتتي؟
-أقصد.. هاهاها، ما مشكلتك؟ ألا تستطيع إيجاد امرأة؟.
-أظن ذلك، إدنا، أخبريني، أين هنّ!؟.
-النساء؟
-نعم.
-في كل مكان، تعرف ذلك.
-أين؟ أخبريني أين.
-حسنٌ، في الكنيسة، أنت تعرف أن هناك نساء في الكنيسة.
-لا أحب الكنيسة.
-أوه.
-اسمعي، لماذا لا تأتين يا إدنا؟
-تقصد أن آتي إليك؟
-نعم، لدي منزل ظريف، يمكننا أن نشرب ونتحدث في هدوء.
-الوقت متأخر.
-ليس متأخرا كثيرا.. اسمعي، أنتِ قرأت إعلاني ولا شك في أنها أثارت اهتمامك.
-حسن.
-أنتِ خائفة، هذا كل ما في الأمر، أنت خائفة فحسب.
-لا، لست خائفة.
-تعالي، إذن، يا إدنا.
-حسن.
-تعالي.
-وهو كذلك، سأراك خلال ربع ساعة.

قرعت إدنا باب منزله. شقة في عمارة حديثة البناء، رقم 17. الأضواء انعكست من حوض السباحة في الأسفل. كان السيد لايت هيل أصلع الجبهة، أنفه معقوف مشعّر الفتحات، يرتدي قميصا مفتوحا عند الرقبة.
-ادخلي، إدنا…
دخلت وأغلق الباب. كانت ترتدي فستانا أزرق محبوكا. في قدميها صندل من دون جوارب وتدخن سيجارة. قال: -اجلسي، سأحضر لك شرابا.
بدا المكان لطيفا. كل شيء فيه ملوّن بالأزرق والأخضر ونظيف جدا، سمعَت السيد لايت هيل يُهَمهم وهو يخلط الشراب. بدا مسترخيا؛ وهذا ما منحها شعورا بالارتياح. قدّم لها مشروبا، ثم جلس على كرسي قبالتها، في الجانب الآخر من الغرفة، وقال:
-نعم، الجوّ حارّ، حار كالجحيم، رغم أنّي أمتلك مكيّف هواء.
-لاحظت ذلك، هذا ظريف للغاية.
-تناولي شرابك.
-أوه، نعم.
رشفت إدنا رشفة. كان شرابا جيدا، قويا بعض الشيء لكنّ مذاقه لطيف. شاهدت جو يميل برأسه وهو يشرب. بدت تجاعيده سميكة حول رقبته. بنطاله فضفاض جدا، ما منح ساقيه مظهرا مضحكا.
-إنه فستان جميل يا إدنا.
-أعجبك؟
-نعم، أنتِ ممتلئة الجسم، إنه مفصّل عليكِ ويلائمك.

وطفقا ينظران إلى أحدهما إلى الآخر ويرشفان شرابيهما في صمت. فكرت إدنا “لمَ لا يتحدث؟ يجب عليه أن يتحدث، ثمة شيء متخشّب فيه!”.. أنهت شرابها. قال جو:
-دعيني أصبّ لك كأسا آخر.
-شكرا، لكنْ يجب علي المغادرة الآن.
-أوه، بالله عليك، دعيني أقدم لك مشروبا آخر، نحتاج إلى شيء لنسترخي.
-حسناً، لكنْ بعده سأغادر.

أخذ جو الكؤوس إلى المطبخ، لم يُهَمهم، عاد وقدّم لها مشروبا أقوى من سابقه. وجلس على كرسيّه أمامها:
-تعرفين، أنا جيد في اختبارات الجنس.
رشفت إدنا من شرابها ولم تجب. سألها:
-وماذا عنك في اختبارات الجنس؟
-لم أجرّب ذلك أبدا.
-يجب أن أن تفعلي، ستكتشفين مَن أنتِ وما أنتِ عليه.
-هل تظن أن هذه الأمور فعّالة؟ لقد رأيتها في الصحيفة، لم أجرِ أيا منها.
-بالطبع، هي فعّالة.
-ربما لا أجيد الجنس، وربما لهذا السبب أنا وحيدة.
أخذت رشفة طويلة من كأسها.
-كلّ واحد منا وحيد في النهاية.
قال جو.
-ماذا تقصد؟
-أقصد أنه مهما سارت الأمور على ما يرام على الصعيد الجنسي أو في الحبّ العقلانيّ، أو في كليهما، فسيأتي اليوم الذي ينتهي فيه كل شيء.
-هذا محزن.
قالت إدنا.
-بالطبع، سيأتي اليوم الذي تنتهي فيه؛ إما بالانفصال وإما أن كل الأشياء يتم حلها بالتسوية: شخصان يعيشان معا دون أن يشعرا بأي شيء، أظن أنه من الأفضل أن تكون وحيدا..
-هل طلّقتَ زوجتك جو؟
-لا، هي التي طلّقتني!
-ماذا كانت المشكلة؟
-عربدة جنسية.
-عربدة جنسية؟!
-العربدة الجنسية هي المكان الأكثر عزلة في العالم. شعرت بمعنى اليأس، تلك الأيور تنزلق دخولاً وخروجا.. اعذريني…
-لا بأس.
-تلك الأيور تنزلق دخولا وخروجا، سيقان مغلقة، أصابع وأفواه تعمل، كل شخص يتشبث ويتوق ويصمّم على فعلها بطريقة ما.
-لا أعرف الكثير عن هذه الأشياء يا جو.
قالت إدنا. أجاب:
-أؤمن بأن الجنس دون الحب لا يعني شيئا، يمكن الأشياء أن تكون ذات معنى إذا وُجدت بعض المشاعر بين الشركاء.
-هل تعني أن على الناس تبادل الإعجاب؟
-هذا يساعد.
-لنفترض أنهم تعبوا من بعضهم البعض؟ لنفترض أن عليهم أن يبقوا مع بعضهم البعض؟ بسبب الوضع المادي؟ الأبناء؟ كل ذلك..
-العربدات لن تنفع.
-وما الذي ينفع إذن؟
-حسناً لا أعرف، ربما المقايضة.
-المقايضة؟
-عندما يعرف زوجان أحدهما الآخر جيدا ويتحولان إلى شريكين، تكون للمشاعر فرصة على الأقل؛ على سبيل المثل، لنقل إني أعجبتُ بزوجة مايك وراقبتُ مشيتها في الغرفة طوال شهور.. أحبّ حركاتها التي تجعلني فضوليا وأتساءل: ماذا يجري مع هذه الحركات؟ رأيتها غضبى وسكرى وهادئة. وعندئذ، المقايضة، أنتَ في غرفة النوم معها.. أخيرا، تعرفها، هناك فرصة لشيء ما حقيقي، بالطبع، مايك مع زوجتك في الغرفة الأخرى.. حظا سعيدا يا مايك، أتمنى أن تكون عاشقا جيدا مثلي.
-وهل هذا يسير على ما يرام؟
-حسنٌ، لا أعرف.. قد تتسبب المقايضات في المصاعب، عندئذ يجب الإفصاح عن كل شيء، حديث صريح جدا منذ البدء، وربما لا يعرف الناس ما يكفي، مهما طالت أحاديثهم…
-هل تعرف ما يكفي يا جو؟
-حسنٌ، قد تكون هذه المقايضات جيدة لبعضهم وربما جيدة للكثيرين، لكنْ أظن أنها لم تكن جيدة بالنسبة إليّ، أنا خجول جدا.
أنهى جو شرابه. وضعت إدنا كأسها وقامت.
-اسمع جو، يجب أن أذهب…
تحرّك جو نحوها. بدا مثل فيل في ذلك السروال. رأت أذنيه الكبيرتين. أمسك بها وقبّلها. انبعث نفَسُه الكريه جدا رغم كل الشّراب. جزء من فمه لم يكن يلامسها. كان قويا وبذل جهدا. أبعدت رأسها ورغم ذلك ظل ممسكا بها.
-جو، دعني أذهب! أنت تتحرك بسرعة كبيرة، جو، دعني!
-لماذا أتيتِ إلى هنا إذن أيتها العاهرة؟
حاول تقبيلها مجددا ونجح. كان فظيعا. رفعت إدنا ركبتها ونالت منه. انقلب ووقع على السجادة.
-يا إلهي! يا إلهي! لماذا فعلتِ ذلك؟ حاولتِ قتلي!…
وتدحرج على الأرض.
ما أبشع مؤخّرته، فكّرتْ. تركته يتدحرج على السجادة وغادرت المنزل.سمعت حديث الناس وأصوات تلفزيوناتهم. لم تكن شقتها بعيدة. شعرت بأنها في حاجة إلى حمّام آخر. خلعت فستانها الأزرق المحبوك ونظّفت نفسها ثم خرجت من الحوض، نشّفت نفسها ولفّت شعرها بلفافات زهرية، وقد قررت ألا تراه ثانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *