إعداد: إلياس زهدي

حلقة 20

قطة في المطر

إرنست همنغواي

 

سائحان أمريكيان فقط توقفا قرب ذلك الفندق. لم يتعرفا أي أحد من النزلاء بعد. فاتخذا طريقهما بين السلالم العليا، عابرَين الممر المؤدي نحو غرفتهما في الطابق الثاني. كانت الغرفة قبالة البحر وتطل، أيضا، على متنزه عمومي يتوسطه نصب تذكاري للحرب، حيث اصطفت عدة نخلات وبعض المصطبات طُليت باللون الأخضر.

حين يكون الحو صحوا يرتاد أحد الرسامين، دائما، المكان مصطحبا حاملة لوحاته. كان الفنانون يعشقون الطريقة التي نبتت بها أشجار النخيل العالية وألوان الفنادق البراقة المقابلة للحدائق والبحر. كان عدد من الإيطاليين قد جاؤوا من مناطق نائية بغية مشاهدة النصب البرونزي الذي أخذ شكله يلمع بعد هطول المطر. كانت القطرات تنثال من خلال شجيرات النخل، مكوٌنة برَكا مائية ضحلة، تجمعت بين الممرات المغطاة بالحصى. وتحت زخّات الأمطار أخذ البحر يتكسر في خط طويل متعرّج وهو ينزلق عائدا نحو الشاطئ، ثم يندفع عاليا، في خط طولي متكسر آخر، متراجعا بعد اشتداد غزارتها.

أخَلت العربات ساحة النصب وفي المقهى عبر الساحة، توقف نادل عند المدخل مصوبا نظراته إلى الخارج، حيث المكان خال تماما. وقفت زوجة الأمريكي عند شباكها متطلعة. في الخارج، آسفل الشباك، عند اليمين، ثمّة قطة صغيرة، انكمشت مرتجفة تحت طاولة خضراء مبللة، تناضل كي لا تصيبها القطرات عند نزولها.

قالت الزوجة:
-أنا ذاهبة لأجلب تلك القطيطة.
اقترح زوجها، وهو في فراشه:
-أنا سأفعل.
-كلا، سأحضرها أنا، المسكينة تحاول جاهدة تفادي البلل تحت المنضدة.
عاد الزوج إلى القراءة، مستندا إلى وسادتين عند قدمَي السرير. قال لها:
-حاذري أن تبتلي.

نزلت الزوجة إلى الطابق الأول فتوقف صاحب الفندق العجوز الطويل وحيّاها بانحناءة حين مرت أمام مكتبه. كانت منضدته في الركن القصي من غرفة الإدارة. أحبت المرأة شكله. قالت:
-مساء الخير.
-نعم، نعم، سنيورة، يا له من جو فظيع.
وبقي في مكانه عند الركن البعيد قليل الضوء في الغرفة. بدت الزوجة معجبة به. أعجبتها طريقته وجدّيته القاتلة حينما يواجه شكوى من أحدهم. أعجبها وقاره وأسلوبه في تقديمه الخدمات لها واحترامه لمركزه في الإدارة. كما أحبت شيخوخته، صرامة وجهه ويديه الضخمتين. شعرت نحوه بميل كبير.
ذهبت لفتح الباب وجالت ببصرها في الخارج. واشتدّ في تلك اللحظة تهاطل المطر.عبر رجل الساحة الفارغة أمامها متجها صوب المقهى، وقد ائتزر واقيا مطريا. ستكون القطة قد اتخذت لها مكانا في الجانب الأيمن. وربما ابتعدت قليلا حيث الرواق.وبينما هي متوقفة عند المدخل، فتحت مظلة إلى جوارها من قبل خادمة الغرف. “علينا ألا ندعم تبتلّين”. ابتسمت وهي تكلمها بالإيطالية. بالطبع، قد أرسلها مدير الفندق. جدّت في السير عبر الممر الحصوي، تتبعها الخادمة باسطة، المظلة فوقها، حتى وصلت إلى المكان الذي يقع أسفل شباكها تماما. وجدت الطاولة في موضعها، خضراء لامعة وقد غسلها المطر، لكن القطة لم تعد هناك.

أصيبت، فجأة، بالخذلان، فنظرت إليها الخادمة متسائلة:
-سنيورة، هل فقدت شيئا؟
أجابت الفتاة الأمريكية:
-كانت هنا قطة.
-قطة؟
-نعم، قطة.
-قطة.. (ضحكت الخادمة) قطة في المطر..
-نعم، أسفل الطاولة، بعد ذلك.. أوه، أريدها، أريد تلك القطيطة من كل قلبي.
قطّبت الخادمة ملامحها بعدما حد،ثتها بالإنجليزية. قالت:
-سنيورة، تعالي.. علينا أن نعود إلى الداخل، ستبتلين.
أجابتها الفتاة الأمريكية:
-نعم، معك حق.

سارتا عائدتين عبر الممر الحصوي. دلفت المرأة إلى الداخل، بينما تأخرت الخادمة في الخارج، كي تغلق المظلة. وحالما عبرت الفتاة الأمريكية مكتب الفندق بادرها المدير بانحناءة آخرى من خلف منضدته. لازمها شعور بالانقباض وإحساس داخليّ بالغ الصغر. جعلتها انحناءة الرجل في تلك اللحظة تزداد ضآلة، ولكنها في الوقت نفسه أشعرتها بأهميتها ومكانتها الحقيقية. كان ذلك أشبه بشعور آني وإحساس لاُمتناه بالوجود والرفعة والسمو. صعدت السلم. وحين فتحت باب الغرفة كان جورج لا يزال مستلقيا على الفراش، مواصلا قراءته.
-هل جلبت القطة؟
سألها وهو يضع الكتاب جانبا. أجابت:
-لقد ذهبت.
راح يفرك عينيه لإراحتهما من القراءة. وتساءل:
عجبا، أين تراها ذهبت؟
جلست هي على حافة الفراش وقالت:
-كنت أرغب بشدة في بالاحتفاظ بها. لا أعرف لماذا أردتها بهذا الإصرار! أردت تلك القطيطة المسكينة. أتراه شيئا جيدا وجود قطيطة بائسة تحت الأمطار؟

عاد جورج إلى المطالعة، فانتقلت هي إلى الجلوس أمام منضدة مرآة الزينة وطفقت تنظر إلى نفسها في مرآة يد صغيرة. تطلعت، تدرس وجهها من الجانب. بدأت أولا بأحد الجوانب، ثم انتقلت إلى الجانب الآخر. بعد ذلك أخذت تتطلع بعناية إلى مؤخرة رأسها وعنقها.
-هل تظن أنها فكرة جيدة لو جعلت شعري ينمو أطول؟
تساءلت وهي تنظر إلى وجهها ثانية. التفت جورج وأخذ يتملى منظر عنقها من الخلف، شعرها مقصوص مثل شعور الأولاد.
-أحبه على هذه الحال.
قالت:
-لقد تعبت من هذا، تعبت من كوني أبدو أشبه بصبي.
اعتدل جورج، مغيرا وضعيته في الفراش، فلم يعد لينظر إليها منذ أن بدأت محادثته. قال:
-ولكنك تبدين جميلة ولطيفة هكذا، سحقا!
أعادت المرآة إلى الجرّارة وقامت متجهة نحو الشباك، تنظر بعيدا وقد خيم الظلام خارج الغرفة. قالت:
-أرغب في أن أدفع شعري إلى الخلف وأشدّه بنعومة، أعمل منه عقدة كبيرة تنحدر إلى الظهر، تلك رغبتي. وأرغب في امتلاك قطة صغيرة أُجلسها في حجري وتقر كلما ربتت فوق رأسها يداي.
تمتم جورج وهو على فراشه:
-نعم…
-كما أرغب في تناول طعامي على مائدة بأوانيَ الفضية تحت ضوء الشموع، أرغب في مقدم الربيع وتمشيط شعري في الهواء أمام المرآة. أريد قطة وبعض الفساتين الجديدة.
-أوه، اصمتي وابحثي لك عن شيء تقرأينه..
قال جورج ذلك وتابع قراءته. عادت، هي، تحدق إلى الخارج من خلال النافذة. كان الظلام قد ازداد حلكة والمطر يواصل هطوله فوق الشجر:
-على أية حال، أريد قطة.. أريد قطة، أريدها الآن! أذا لم يكن بوسعي آن أعيش بسعادة وأن أمتلك شعرا طويلا، فبإمكاني على الأقل الحصول على قطة صغيرة.

لم يكن جورج يصغي إلى ما تقول؛ انشغل تماما بمطالعة كتابه. ظلت زوجته ترقب النافذة وتتطلع إلى الأنوار التي بدأت تغمر الساحة، وفي تلك اللحظة طرق أحدهم الباب.
-ادخل..
قال جورج ناظرا من فوق كتابه. كانت الخادمة تقف في الممر عند الباب، ممسكة بقطة شعرها بلون درع السلحفاة. تخلصت القطة من قبضتها بعناد وراحت تتأرجح عكس الاتجاه محاولة النزول:
-عفوا.. طلب مني المدير إحضارها من أجل السنيورة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *