إعداد: إلياس زهدي

حلقة 19

كْريم

هاروكي موراكامي (1949 -…)

2/2

دون أدنى فكرة عما يجب فعله، اتكأت على البوابة ووقفت هناك عشر دقائق. كان لدي أملٌ ضعيف أنه ربما ظهر شخصٌ آخر قبل فوات الأوان. لكنْ لم يأت أحد. ولا علامة لأي حركة، سواء داخل أو خارج البوابة. لا رياح ولا زقزقة عصافير ولا نباح كلاب. وكما من قبل، غطاءٌ ممتد من السحب الرمادية منبسطٌ في الأعلى.

استسلمت، أخيرا “ماذا يمكن أن أفعل؟”.. وبخطوات ثقيلة، سرتُ نحو الأسفل في اتجاه محطة الحافلات، جاهلا تماما ما يجري. الشيء الوحيد الواضح حول الموقف بأكمله كان أنه لم يوجد حفل بيانو هنا ولا أي حدث آخر يُقام اليوم. لم يكن أمامي إلا العودة إلى المنزل، بباقة من الورد الأحمر في يدي. ستسأل أمي، بلا شك، «لماذا الورد؟» ويجب أن أعطي إجابة وجيهة. فكّرت في أن ألقيها في صندوق النفايات في المحطة، لكنها كانت -بالنسبة إلي على الأقل- باهظة السعر بعض الشيء على أن أرميها هكذا.

أسفل المنحدر، على بُعد مسافة قصيرة، كان هناك متنزه مريح وصغير، بحجم منزل تقريبا. وفي الجانب البعيد من المتنزه، بعيدا عن الشارع، يقوم جدار حجري ذو زاوية طبيعية. بالكاد كان متنزها، لا نافورة مياه ولا معدّات للعب. كل ما كان هناك ممرّ مُظلّل بأغصان متشابكة في منتصف الفضاء. كانت حوائط التعريشة شبكية ومائلة ومُغطاة باللبلاب. حولها شُجيراتٌ وبلاط مربع ومسطح للمشي. من الصعب تبين غرض المتنزه، لكنّ شخصا ما يعتني به بانتظام؛ فالأشجار والشجيرات مشذبة بأناقة ولا أعشاب أو نفايات في الأرجاء. في الطريق نجو أعلى التل، مشيت بجوار المتنزه دون الانتباه إليه.

قصدت المتنزه وأنا أرتب أفكاري. جلست على مقعد بجانب التعريشة. شعرت بوجوب الانتظار في المنطقة وقتا أطول لأرى كيف ستتطور الأشياء (بحسب ما أعرف، قد يظهر الناس فجأةً). وما إن جلست حتى أدركت كم كنتُ مُنهَكا. كان نوعا غريبا من الإنهاك، كما لو كنت متعبا منذ فترة طويلة، لكنْ لم ألحظ ذلك والآن فقط استبدّ بي كل التعب. كان هناك منظر بانورامي للميناء من التعريشة. رسا على رصيف الميناء عددٌ من سفن الحاويات الكبيرة. من على قمة الجبل، لم تشبه الحاويات المعدنية الملأى أكثر من العُلب الصغيرة التي تحتفظ بها على مكتبك لحفظ النقود المعدنية أو قصاصات الورق.

ثم، بعد فترة، سمعت صوت رجل من بعيد. لم يكن صوتا طبيعيا، بل كان صوتا مُضخما بمكبرِ صوت. لم أتمكن من التقاط ما يُقال، لكنْ كان هناك توقفٌ واضح بين كل جملة. تكلّم صاحب الصوت بانضباط، دون أثر لعاطفة، كما لو كان يُحاول أن يُوصل، بأكبر قدْر من الموضوعية، شيئا بالغ الأهمية. خطر ببالي أن ذلك ربما كان رسالة شخصية مُوجهةً لي، لي وحدي. كأنّ شخصا ما أخذ على عاتقه مهمة إخباري أين أخطأت، ما الذي غفلت عنه. لم يكن شيئا كنتُ سأفكر فيه عادة، لكنْ، لسبب ما، داهمني الأمر بتلك الطريقة. استمعتُ بحرص. أصبح الصوت أعلى وأسهل للفهم باطّراد. كان يأتي، حتما، من مكبر صوت على سقف سيارة تمضي ببطء في طريقها لأعلى المنحدر، وعلى ما يبدو، دون عجلة مطلقا. أخيرا، أدركتُ ماهية الأمر: سيارة تُذيع رسالة كنَسية.

«سيموت الجميع»، قال الصوت برتابة هادئة. «كل شخص سيلقى حتفه في النهاية. لا أحد يمكنه الفرار من الموت أو الحساب الذي يأتي في ما بعد. بعد الموت سيُحاسَب كل امرء بشدة على خطاياه».

ظللت جالسا أستمع إلى تلك الرسالة. وجدت الأمر غريبا أن يوجّه شخص رسالة تبشيرية في هذه المنطقة السكنية المهجورة فوق قمة جبل. الناس الذين يعيشون هنا كلهم يمتلكون عدة سيارات ومترَفو العيش. أشك في أنهم يسعون إلى الخلاص من الخطيئة. أو ربما يسعون؟ قد لا يكون للدخل والمكانة علاقةٌ بالخطيئة والخلاص.

«لكن كل أولئك الذين يسعون إلى الخلاص في المسيح ويتوبون عن خطاياهم، سيُكفرّ الرب عن كل خطاياهم. سيفّرون من نيران الجحيم. آمِنوا بالله، فقط أولئك الذين يؤمنون به سيَصلون إلى الخلاص بعد الموت وسيحظون بالحياة الأبدية».

كنت أنتظر ظهور سيارة التبشير المسيحي أمامي في الشارع لتقول المزيد عن الحساب بعد الموت. أظن، بالتأكيد، أنّي كنت آمل أن أسمع كلمات تُقال بصوت مطمئن وحازم، بغضّ النظر عن الكلام نفسه. لكن السيارة لم تظهر أبدا. بل بدأ الصوت، عند نقطة محددة، يزداد هدوءا ويقل تمييزا، ولم يمض وقت طويل حتى لم يعد بإمكاني سماع أي شيء مطلقا. قد انعطفت السيارة في اتجاه آخر بالتأكيد، بعيدا عن مكاني. عندما اختفت السيارة، شعرتُ كما لو أني نُفيتُ خارج العالم.

وباغتتني فكرةٌ مفاجئة. ربما كان الأمر كله خدعة اختلقتها الفتاة. هذه الفكرة -أو هذا الشعور إن صح القول- أتى من اللامكان. لسبب لم أستطع فهمه، أعطتني معلومة خاطئة عمدا وأتت بي إلى قمة جبل ناء في مساء يوم أحد. ربما فعلتُ شيئا تسبب في جعلها تحمل ضغينة شخصية ضدي. أو ربما، بلا داع، وجدتَني بغيضا جدا بكيفية لم تستطع تحملها فأرسلت إلي دعوة إلى حفل غير موجود، وهي الآن تشمت -ضاحكة بملء شدقيها- وتتصور (أو بالأحرى تتخيل) كيف خدعتني وكيف أبدو مثيرا للشفقة والسخرية.

حسنٌ. لكن أيُمكن لشخص أن يتكبد عناء اختلاق حبكة معقدة مثل هذه لمضايقة شخص ما بدافع الغضب فقط؟ حتى أن طباعة البطاقة البريدية كلّف بعض العناء بالتأكيد. هل يمكن لشخص أن يكون منحطا إلى هذه الدرجة؟ لم أستطع أن أتذكر أني فعلت شيئا قد يجعلها تكرهني إلى هذا الحد. لكن أحيانا، دون إدراك ذلك حتى، نسحق مشاعر الناس، نجرح كبرياءهم، نُشعرهم بالسوء. تأملت في احتمال تلك الضغينة التي لا تُصدق، الالتباسات في الفهم التي ربما حدثت، لكن لم أجد شيئا مُقنعا في كل ذلك.وبينما أنا أهيم عبثا في متاهة العواطف تلك، شعرت بأن عقلي يفقد خيط أفكاره الناظم. وكنت أواجه صعوبة في التنفس قبل حتى أن أدرك ذلك.

كان عاديا أن يحدث لي هذا مرة أو مرتين في السنة. أظن، حتما، أنه بسبب الإجهاد جرّاء سرعة التنفس. شيءٌ يُربكني؛ ينسدّ حَلقي ولا أعود قادرا على الحصول على هواء كاف لرئتَي. هلعت، كما لو كنت أُسحق من تيار مُندفع وعلى وشك الغرق، وأن جسمي سيتجمّد. كل ما يمكنني فعله في مثل هذه الحالة أن أربض إلى أسفل وأغلق عينَي وأنتظر، بجلَد، أن يعود جسدي إلى إيقاعه الطبيعي. بعدما كبرت، لم أعد هذه الأعراض تنتابني (في مرحلة معينة، توقفت، أيضا، عن الاحمرار خجلا بسهولة). لكن في مراهقتي كنت مضطربا بسبب هذه المشاكل.

على المقعد، بجانب التعريشة، عصرت عينَي وأنا أغلقهما بإحكام. انحنيتُ إلى الأمام، وانتظرت أن أتحرر من هذا الانسداد. ربما كانت خمس دقائق، ربما خمسة عشرة. لا أعرف كم استغرق الأمر. طوال الفترة، رأيت أشكالا غريبة تظهر وتتلاشى في الظلام وأحصيتها ببطء، باذلا كل جهدي كي أستعيد أنفاسي. خفق قلبي بإيقاع غير منتظم في قفصي الصدري، كما لو كان فأرا مذعورا يعدو في الداخل.

كنت مُستغرقا جدا في العدّ إلى درجة أنه مضى وقتٌ لأدرك حضور شخص آخر. بدا الأمر كما لو أن شخصا ما أمامي يراقبني. بحذر، وببطء أكثر، فتحتُ عينَي ورفعت رأسي درجة. كان قلبي لا يزال يخفق بقوة.

دون أن أنتبه، كان جلس رجل عجوز قد على المقعد الموجود أمامي من الناحية الأخرى، وهو ينظر إلي مُباشرة. ليس سهلا لشاب أن يحكم على عمر شخص أكبر. بالنسبة إلي، كلهم مُسنون. ستون، سبعون.. ما الفرق؟! لم يعودوا شبابا بعد الآن، هذا كل ما في الأمر. كان هذا الرجل يرتدي سترة صوفية ذات لون رمادي مائل إلى الزرقة وبنطالا مخمليا بنيا وحذاء رياضيا كحليا. كأنه مر وقتٌ طويل منذ أن كانت كل هذه الأشياء جديدة. لكنه لم يبد رثا أو شيئا من هذا القبيل. كانشعره الرمادي كثيفا وقاسيا. وفوق أذنيه نبتت خصلات مثل أجنحة الطيور عندما تستحمّ ولا يضع نظارات. لم أعرف كم من الوقت مضى وهو هناك، لكنْ خالجني شعور بأنه كان يراقبني منذ فترة وجيزة.

كنت متأكدا من أنه سيقول «هل أنت بخير؟» أو شيئا مثل هذا، بما أني كنتُ أبدو وكأني متورط في مشكلة (وكنت بالفعل متورطا). كان هذا أول شيء خطر بذهني عندما رأيت العجوز. لكنه لم ينبس ببنت شفة، لم يسأل عن أي شيء. فقط أحكم قبضته على مظلة سوداء مطوية بإحكام كان يستعملها كعكاز. كانت الشمسية ذات مقبض خشبي بلون العنبر وبدت متينة بما يكفي لتكون سلاحا إذا لزم الأمر. افترضت أنه يعيش في الحي، إذ لم يصطحب معه شيئا.

بقيت جالسا هناك، مُحاولا أن أهدئ تنفسي، والعجوز يُراقب في صمت. لم يجفل لحظة واحدة. أشعرني هذا بعدم الارتياح، كما لو أني كنتُ أتجول في باحة شخصٍ دون إذن، وأردت أن أغادر المقعد وأتوجه إلى محطة الحافلات بأسرع ما أستطيع. لكنْ، لسبب ما، لم أستطع الوقوف على قدمي. مر الوقت، ثم فجأة نطق العجوز.
-دائرةٌ متعددة المراكز.
نظرت إليه وتلاقت أعيُننا. كنت جبهته عريضة جدا وأنفه مُدببا، حادا مثل منقار طائر. لم أقو على قول شيء، لذا كرر العجوز الكلمات «دائرةٌ متعددة المراكز».

لم تكن لدي، طبعا، أيةُ فكرة حول ما كان يُحاول قوله. خطرت لي فكرة، هذا هو الرجل الذي كان يقود سيارة مكبر الصوت المسيحي. ربما ركن السيارة على مقربة من هنا ويأخذ استراحة!؟ لا، هذا غير ممكن. صوته مختلفٌ عن الصوت الذي سمعت. صوت المُكبر كان صوت رجل أكثر شبابا أو ربما كان ذلك تسجيلا.
-دوائر.. أخذا ما قلت؟
سألتُ على مضض. كان أكبر مني، واقتضى الأدب أن أجيب.
-هناك دوائر عدة -لا، أحيانا عددٌ لانهائي- وهي دائرةٌ بلا مُحيط.
عبس الرجل وهو يقول هذا وصارت التجاعيد على جبهته أعمق.
-هل تستطيع أن تتصور هذا النوع من الدوائر في عقلك؟
كان عقلي لا يزال غير جاهز، لكنّي فكرت في الأمر. دائرةٌ متعددة المراكز ودون محيط. لكنْ بقدر ما فكرت، لم أستطع تخيلها.

قلت:
-لم أفهم.

حدّق في العجوز بصمت. وكأنه كان ينتظر إجابة أفضل.
-لا أظن أنهم درّسونا هذا النوع من الدوائر في فصل الرياضيات.
أضفتُ بوهن. هز العجوز رأسه ببطء:
-بالطبع، لا. هذا مُتوقع، لأنهم لا يدرّسونك هذا النوع من الأشياء في المدرسة، كما تعرف جيدا.

كما أعرف جيدا؟ لماذا يفترض العجوز هذا؟
-هل هذا النوع من الدوائر موجود فعلًا؟
-بالتأكيد، موجود!
قال الرجل العجوز، مميلا رأسه عدة مرات.
-هذه الدائرة موجودة بالفعل، لكنْ ليس الجميع يستطيعون رؤيتها».
-هل بإمكانك، أنت، رؤيتها؟

لم يرد العجوز. تعلق سؤالي في الهواء على نحو مربك لحظة، ثم غدا ضبابيا واختفى. تكلم الرجل العجوز مجددا: -استمع، يجب عليك أن تتخيلها بقوتك العقلية الخاصة. استخدم كل الحكمة التي لديك وتصوّرها. دائرةٌ متعددة المراكز لكنْ بلا محيط. لو بذلت جهدا جبارا كأنك تتعرق دما، ستتضح -بالتدريج- ماهية الدائرة.
قلتُ:
-يبدو صعبا.
-بالتأكيد، الأمر صعب. قال العجوز وبدا كما لو كان يلفظُ شيئا قاسيا:
-لا شيء يستحق الفهم في هذا العالم يمكنك فهمه بسهولة!
وكما لو أنه يبدأ فقرة جديدة، نظف حَلقه برهة وتابع:
-لكنْ عندما تكرس وقتا ومجهودا أكبر، إن حققت ذلك الشيء الصعب، سيغدو كْريم حياتك.
-كْريم؟!
-يستعمل الفرنسيون تعبيرا يقول “crème de la crème”.. هل تعرفه؟
-لا أعرفه.
قلت.
-لا أتكلم الفرنسية.

-كْريمة الكْريم.. هذا يعني أفضل الأفضل. بيت القصيد، الأكثر أهمية في الحياة. هذه هي crème de la crème”، فهمت؟ ما عدا ذلك عديم القيمة.

لم أفهم فعلًا ما كان العجوز يلمّح له.. crème de la crème”!..

قال العجوز:
-فكر فيها. أغلق عينيك مجددا وفكر جيدا في الأمر. دائرةٌ متعددة المراكز لكنْ بلا مُحيط. عقلك مصنوعٌ لتفكر في أشياء صعبة؛ ليساعدك في الوصول إلى نقطة حيث تفهم شيئا ما لم تفهمه في البداية. لا يُمكنك أن تكون كسولًا أو مُقصّرا. الآن هو وقتٌ حاسم، لأنه هذه هي الفترة يتشكل عقلك وقلبك.

أغمضتُ عيني مجددا وحاولت تخيّل تلك الدائرة. لم أرغب أن أكون كسولا أو مُقصرا. لكن -بغض النظر عن مدى جدية تفكيري في ما قال العجوز- كان مستحيلا علي في ذلك الوقت أن أفهم معناها. الدوائر التي عرفتها لديها مركزٌ واحد ومحيط مُتقوس يصل بين نقط متساوية في البعد عنه. ذلك الشكل البسيط الذي يمكنك رسمه بفرجار. ألم يكن نوع الدوائر الذي يتحدث العجوز عنه هو النقيض للدائرة؟

لم يخطر ببالي أن العجوز كان مختلا عقليا. ولم أفكر في أنه كان يُضايقني. أراد أن يُبلغ عن شيء مهم. لذا حاولت مجددا أن أفهم، لكن دار عقلي ودار، بلاجدوى. كيف يُمكن لدائرة ذات عدة مراكز (أو ربما عدد لانهائي) أن توجد كدائرة؟ أكان هذا مَجازا فلسفيا متقدما؟ استسلمت وفتحت عيني، احتجت إشارات أكثر.

لكنّ العجوز لم يعد هناك. نظرت في الأرجاء لكنْ لم توجد إشارة لأي أحد في الحديقة. بدا لي كما لو أنه لم يوجد أبدا. هل أتخيل أشياء؟ لا، قطعا هذا لم يكن خيالا. لقد كان هناك أمامي بالضبط، قابضا على شمسيته بشدة ويتحدث بهدوء، طارحا سؤالا غريبا، وفجأة، اختفى.

أدركت أن تنفسي عاد طبيعيا، هادئا ومستقرا. اختفى التيار المندفع. بدأت تظهر فجواتٌ في الطبقة الكثيفة من السّحُب فوق الميناء هنا وهناك. شعاعٌ من الضوء مر عبرها، مُنيرا غطاء الأليمنيوم على سقف رافعة، كما لو قد كان قاصدا بدقة تلك البقعة بالتحديد. حدّقتُ وقتا طويلا، متحجرا بتأثر، في هذا المشهد شبه الأسطوري.

كانت بجانبي برائحتها، باقة الورد الأحمر ملفوفة في السولوفان، كنوع من الإثبات لكل الأشياء الغريبة التي حدثت لي. فكرتُ: ماذا أفعل به؟! وانتهى المطاف بتركها على المقعد، بجانب التعريشة. كان هذا الاختيارَ الأفضل بالنسبة إلي. وقفتُ وتوجّهت نحو محطة الحافلات حيث نزلت في البداية. بدأت الرياح تَهبّ، مُبعثرة السحب الراكدة في الأعلى.

بعد أن انتهيت من حكي هذه القصة، حل الصمت، ثم قال صديقي الشاب:
-صدقا، لم أفهمها، ماذا حدث فعليا آنذاك؟ أكانت هناك نيةٌ أو جوهرٌ للعمل؟
تلك الظروف العجيبة التي مررت بها على قمة ذلك الجبل في «كوبا» مساء يوم أحد في أواخر الخريف، تابعا الاتجاهات المكتوبة في الدعوة إلى حيث كان من المفترض أن يقام الحفل، فقط لأكتشف أن المبنى مهجور. ما معنى هذا؟ ولماذا حدث؟ كان هذا ما يسأل عنه صديقي. أسئلةٌ منطقية، خصوصا أن القصة التي كنت أقصّ عليه لم تكن لها خاتمة. اعترفت قائلا:
-أنا بنفسي ما زلتُ حتى الآن لا أفهمها.

ظلت دون حلّ إلى لأبد، مثل أحجية قديمة. ما حدث ذلك اليوم كان غامضا ويتعذر تفسيره. تركني الأمر في الثامنة عشر محتارا ومرتبكا إلى درجة أني ضللتُ -لحظات- طريقي تقريبا. قلت:
-لكني فهمت الشعور؛ تلك النية أو ذلك الجوهر لم يكن في الواقع هو القضية.
بدا صديقي مشوشا:
-هل تقول إنه لا حاجة لي بأن أعرف عما كان كل هذا؟
أومأت إيجابا. فقال:
-لكن لو كنتُ مكانك، كنت سأنزعج من اللانهاية. كنت سأوّد أن أعرف الحقيقة، لماذا حدث شيءٌ مثل هذا.. لو كنت مكانك…
-نعم بالتأكيد. أزعجني الأمر أيضا حينذا. أزعجني بشدة. جرحني أيضا. لكنّ التفكير في الأمر لاحقا، من بعيد، بعدما مرّ الوقت، انتهى بي إلى الشعور بأنه عديم الأهمية، لا يستحق أن أشغل به نفسي. شعرتُ كما لو أنه لم تكن للأمر أية علاقة بكْريم الحياة.
كرر:
-كْريم الحياة!
أخبرته:
-تحدُث أمور مثل هذه أحيانا. أحداثٌ غير منطقية ومُبهمة ورغم ذلك فهي مُربكة للغاية. أظن أننا نحتاج ألا نُفكر فيها، فقط نُغمض أعيننا ونتجاوزها. كما لو أننا نُمر تحت موجة هائلة.

ظل صديقي هادئا بعض الوقت، يفكر في الموجة الهائلة. فهو راكب أمواج مُتمرس وهناك أشياء كثيرة، أشياء جدية، اضطر لأن يُفكر فيها عندما أتى الحديث عن الأمواج. وتكلم أخيرا:
-لكنْ أن تفكر في لاشيء ربما كان صعبا للغاية أيضا.
-أنت مُحق. ربما كان صعبا فعلا.
“لا شيء يستحق الفهم في هذا العالم ويمكنك فهمه بسهولة”، قال العجوز هذا باقتناع راسخ، مثل فيثاغورس وهو يشرح نظريته.
سأل صديقي:
-وبخصوص الدائرة متعددة المراكز لكنْ بلا مُحيط، أوَجدت إجابة؟
قلت:
-هذا سؤال جيد.
وببطء، هززت رأسي.
-أوجدتُها!؟ عندما يحدث أي شيء غير منطقي ومبهم ومُربك في حياتي (لا أقول إنه يحدث عادة، لكن يحدث مرات قليلة)، أعود دائما إلى تلك الدائرة، الدائرة مُتعددة المراكز لكنْ بلا مُحيط. ثم، كما فعلت عندما كنت في الثامنة عشرة، على مقعد التعريشة، أغمض عيني وأنصت إلى نبض قلبي.

أشعر أحيانا أنه بإمكاني القبض على ماهية تلك الدائرة، لكن فهما أعمق يتملص مني. تلك الدائرة، على الأغلب، ليست دائرة ذات شكل محدد وحقيقي، لكنها، نوعا ما، تلك الدائرة التي توجد فقط داخل عقولنا. عندما نُحب أحدا بشدة أو نشعر بعاطفة عميقة أو نحظى بحسّ مثالي عما يجب أن يكون عليه العالم أو عندما نعثر على الإيمان (أو شيء قريبٍ من الإيمان) هذا عندما نفهم الدائرة كما هي ونستسيغها بقلوبنا. رغم ذلك فإن هذا ليس -في الحقيقة- أكثر من محاولتي الغامضة تسويغَها.

عقلكُ مصنوعٌ ليُفكر في أشياء صعبة. ليساعدك على الوصول إلى نقطة حيث تفهم شيئا لم تفهمه في البداية. ويصبح هذا كْريم حياتك. ما عدا ذلك مملّ وعديم القيمة. هذا ما أخبرني به العجوز ذو الشعر الرمادي. في مساء يوم أحد غائم آواخر الخريف، على قمة جبل في كوبا، بينما أنا أمسكب، إحكام، باقة ورد أحمر.

وحتى الآن، متى ما حدث شيء مزعجٌ لي، أفكر مليا في تلك الدائرة الاستثنائية وفي االمملّ وعديم القيمة والكْريم الفريد الذي هو هنا، حتما.. في أعماقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *