عبد الرزاق بوتمزار

ح. 55

كيلومترات من البّاريزيانْ..

بحُكم أننا كنّا نغادر مقرّات إقامتنا، غالباً، في الصّباح ولا نعود إليها إلا مساءً، بعد انصرام الحصص المسائية، فقد كنّا مُجبَرين على أن نمضيّ ساعاتٍ طويلةً في الأرجاء المُجاوِرة لمبنى كلية الآداب؛ ساعات تطول وتقصر حسب الفاصل الزّمني بين حصص الصّباح ونظيرتها لِما بعد الزّوال. وبما أننا لم نكن نُعوّل إلا على جيوبنا في تدبير أمور معيشتنا، في غياب “المحنة”، فقد كان علينا الاقتصادُ ما أمكن في المصاريف، رفقاً بجيوب آبائنا أو مَن يقومون مقامَهم في الإنفاق علينا خلال ذلك الشّوط الإضافيّ من الدّراسة الجامعية.

كنّا نلجأ إلى كثير من محلات بيع الأكلات السّريعة في الجوار. صار أحدُ هذه المحلات، بعد أن جرّبْنا العديد منها، مكانَنا المفضَّلَ لإسكات صراخ أمعائنا كلما أنهيْنا الحصصَ الصّباحية. كانتْ ساعاتُ التحصيل تستنزف ما تبقى من طاقاتنا الذهنية من تجاربنا الجامعية الأولى؛ تُنهك في أجسادنا ما أغفلتْ تلك السّنوات الأربع السّابقة.

صار البوكاديّوس وجبتَنا الرّئيسيّة التي نُسكِت بها جوعَنا. ولكثرة ما التهَمْنا من هذه الوجبة صرْنا، يوماً بعد آخرَ، نتندّر بتخيّل كل تلك الكيلومترات المديدة من الباريزيانْ التي يُفترَض أنها دخلتْ معدة كل ّواحد منّا. كان إبراهيم يحشو قطعة الخبز بكوكتيلْ مُنوَّع من الخضر، البيض والتونْ والمايّونيزْ.. عرَفت أطنانٌ من الخليط الغريب -العجيب طريقها إلى مَعداتنا، رابطةً معها علاقة يومية امتدّت سنتين.

في البداية، كنّا نكتفي بـ”نْصّ كوميرة”، نُسكت بها أمعاءنا، في انتظار الحصص المسائية. وبتوالي الأيام ووفائنا لبوكاديوسْ إبراهيم اهتديْنا، أمام عدم قدرة الوجبة على سدّ كاملِ رمَقنا، إلى حلّ تَوافَقنا حوله مع صاحب المحلّ يقضي بأنْ ندفع درهماً إضافياً كي يحشو لنا “باريزيانة” كاملة، بدلَ نصفها، الذي لم يكنْ يفي بالغرَض.

لكن ما كان يُميّز باريزيانْ إبراهيم أنّ كلّ قطعة منه كانت بطولٍ مُستفزّ، إلى درجة أننا لم نكن نستطيع تجنّب تبادُل تعليقات ساخرةَ بشأنها. وصار حمّادي يحرص على أن يُذكّرنا، في كل مناسَبة، بمقدار الكيلومترات من الباريزيانْ التي ابْتلع كلّ واحد منّا في سنتَي دراستنا الجامعية.

آه أمّي، ما أبغض الظروف التي اضطرّتني إلى الابتعاد عن خبزك اللذيذ وتعويضه بباريزيانْ إبراهيم وغير إبراهيم! آه أمّي، لو ترين حالي، آهٍ، وقد صرتُ أبلع الخبز دون أدنى تلذذ، أنا الذي كنت ألتهم خبزك قطعةً قطعة بلذة لا تضاهى. آه، أمي كم أحنّ إلى حضن خبزك اللذيذ؛ هناك في ذلك الجنوب الدّافئ البعيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *