إعداد: إلياس زهدي

حلقة 18

كْريم

هاروكي موراكامي (1949 -…)

2/1

حسنٌ، أنا أحكي لصديق شاب وقائع حادثة غريبة جرت عندما كنتُ في الثامنة عشرة. لا أذكر تحديدا لماذا تطرقت لها، فقط صادف أن وردت سيرتها ونحن نتحدث. أقصد أنها واقعة حدثت منذ زمن بعيد، بمثابة تاريخ قديم. كما أنني لم أتمكن أبدا من استخلاص أي عبرة منها.

شرحتُ له «كنت وقتذاك قد تخرّجت من المدرسة الثانوية، لكن لم ألتحق بالكلية بعد. كُنت قد فشلت في امتحان القبول في الجامعة وأنتظر فرصتي لأحاول مُجددا. كانت أوضاعي غير مستقرة نوعا ما». استرسلتُ: «لكن كل ذلك لم يزعجني كثيرا. عرفت أن بإمكاني دخول كلية خاصة محترمة إلى حد ما، لو أردتُ ذلك. لكنّ والدَي أصرّا على أن أحاول الالتحاق بجامعة حكومية؛ لذا خضتُ الامتحان، وأنا أدرك، منذ البداية، أنه سينتهي بفشلي المبين فيه».

كان امتحان القبول في الجامعة الحكومية يومذاك يشمل جزء رياضيات إجباريا، ولم يكن لديَّ أدنى اهتمام بالتفاضل والتكامل. قضيت السنة التالية في تزجية الوقت وَحسب؛ كما لو أني أخلقُ حجة للتغيب. فبدل الحضور في المدرسة التحضيرية أو الاستعداد لخوض الامتحان مجددا، تجولت في المكتبة المحلية شاقا طريقي وسط الروايات الدسمة. تحتّم على والدَيّ أن يفترضا أني كنت أدرسُ هناك. لكن، مهلا، هذه هي الحياة. وجدت الأمر أكثر إمتاعا أن أقرأ كل ما خط بلزاك عن أن أتعمق في مبادئ التّفاضل والتكامل.

في مطلع أكتوبر من تلك السنة، تلقيّت دعوة لحفل بيانو تحْييه فتاة كنت أسبقها بعام في المدرسة، وتلقينا دروس بيانو من المعلم ذاته. ذات مرة، عزف كلانا مقطوعة ثنائية قصيرة لموزارت. ورغم ذلك، عندما أكملت السادسة عشرة توقفت عن حضور الدروس ولم أعد أراها؛ لذلك لم أعرف لماذا أَرسلت إلي هذه الدعوة. هل أثرتُ اهتمامها؟ كانت جذابة بالتأكيد، رغم أنها -بالحديث عن المظاهر- لم تكن نوعي المفضّل. كانت تلبس على الموضة وتذهب إلى مدرسة خاصة للفتيات. لم تكن من النوع الذي يسقط في حب فتى عادي ومملّ مثلي.

ونحن نعزف المقطوعة سويا، كانت ترمقني بنظرة فجة كلما عزفت نُوتة خاطئة. كانت عازفة بيانو أمهرَ مني، وأنا أتوتر بشدة في العادة، لذا عندما جلسنا متجاورين وعزفنا، لم أخطأت في نغمات كثيرة. كما لمس مرفقي مرفقها عدة مرات أيضا. لم تكن مقطوعة صعبة، كما عزفتُ بالجزء الأسهل. وكنت كلما أخطأت، اكتسى وجهها بتعبير يقول «أنهِها حالا، أرجوك!». كانت تطقطق بلسانها، ليس بصوت عال، لكنه عال بما يكفي لأن أسمعه. ما زال بإمكاني سماع ذلك الصوت حتى الآن. وربما كان مما دفعني إلى التوقف عن تعلم البيانو.

عموما، تمثلت علاقتي بها، ببساطة، في أنه حدث أن درسنا في مدرسة البيانو نفسها. كنا لنتبادل التحية لو تقابلنا هناك. لكنْ لا أتذكر أننا تشاركنا أي شيء شخصي. لذا، فجأة، أتلقى دعوة لحضور عزفها على البيانو (لم يكن عزفا منفردا بل عزف جماعي مع ثلاثة عازفين). فاجأني هذا كُليا، في الواقع، أربكني. لكن الشيء الوحيد الذي امتلكتُ بغزارة تلك السنة كان الوقت، لذا أرسلت ردي في بطاقة بريدية مؤكدا أني سأحضر. فعلت ذلك لسبب واحد، كان يدفعني الفضول لأعرف ما يكمن وراء الدعوة، إن كان هناك دافعٌ أصلا. لماذا تُرسل إلي، بعد كل هذا الوقت، دعوة غير متوقعة؟ ربما أصبحتْ أكثر مهارة في عزف البيانو وأرادت أن أرى ذلك. أو ربما هناك شيء ما شخصي تمنت أن تبلغني إياه. بكلمات أخرى، كنت لا أزال أستكشف الطريقة المُثلى لاستخدم حسّي الفضولي، وفي رأسي تتصارع كل الاحتمالات، بدون فائدة.

تقع قاعة الحفل على قمة أحد الجبال في مدينة «كوبا». ركبت قطار هانكيو حتى أقرب محطة، ثم حافلة سارت في طريق متعر، في منحدر. نزلت قرب القمة، وبعد أن سرت مسافة قصيرة بلغت مكان الحفل. كان يحتل مساحة ضيقة ويحيط به مجمّع تجاري ضخم. لم أتخيل أن تكون هناك قاعة حفلات في مثل هذه البقعة غير الملائمة، على قمة جبل، في حي سكني هادئ وراق. كما يمكنك أن تتصور، هناك العديد من الأشياء في العالم لم أعرف عنها شيئا.

شعرت بأنه من الواجب إحضار شيء لأُظهر تقديري لكوني قد دُعيت إلى الحفل. فاخترت من عند بائع زهور بالقرب من محطة القطار مجموعة من الزّهور بدا لي أنها تناسب الموقف. أخذتها ملفوفة في باقة، ثم وصلتْ الحافلة وقفزتُ على متنها. كان عصرَ يوم أحد باردا. السماء مغطاة بسحب رمادية كثيفة. وبدا أن مطرا باردا على وشك الهطول في أية لحظة. رغم ذلك، لم تكن هناك رياح. ارتديت قميصا خفيفا تحت معطف رمادي متعرّج بلمسة زرقاء اللون وعلقت حقيبة قماشية على كتفي. كان المعطف جديدا للغاية، والحقيبة قديمة جدا وبالية. وفي يدي، كانت الباقة المزدانة بالورد الأحمر ملفوفة في السولوفان. حين صعدتُ إلى الحافلة بهذا الهندام، أخذ الركاب الآخرون يرمقونني بنظرات سريعة، أو ربما بدا كما لو أنهم فعلوا. شعرتُ بخَّدي يتورّدان بحمرة، وفي ذلك الوقت، كنت أتوّرد خجلا، ومضى وقت طويل قبل أن ينجلي ذلك الاحمرار.

«لماذا بحق السماء أنا هنا؟».. سألتُ نفسي وأنا جالس محدودب الظهر على كرسي، أُبرّد وجنتَي المتقدتين براحتَي يدي. لم أرغب في ملاقاة هذه الفتاة بالتحديد أو سماع عزف البيانو. فلماذا أنفقت كل مصروفي على باقة ورد؟ ولماذا قطعتُ كل هذه المسافة إلى قمة جبل في عصر يوم أحد كئيب في نونبر؟ هناك حتما، شيءٌ ما لم يكن على ما يرام جعلني أضع بطاقة الرد بالإيجاب في صندوق البريد.

كان عدد الرّكاب يقل في الحافلة كلما صعدت بنا نحو أعلى الجبل. وعندما وصلنا عند محطتي، لم يبق سواي أنا والسائق. غادرت الحافلة وتبعت الاتجاهات المذكورة في الدعوة نحو شارع محدود الانحدار. وكلما سرت في منعطف، ظهر الميناء مدة قصيرة في المشهد واختفي مجددا. كان لون السماء الملبدة بالغيوم باهتا، كما لو كانت مُغطاة بالرصاص. كانت هناك شاحنات ورافعات ضخمة قرب الميناء، بارزة في الهواء، مثل قرون الاستشعار لبعض مخلوقات غريبة زحفت خارجةً من المحيط.

المنازل في محيط قمة المنحدر كبيرة وفاخرة، ذات جدران حجرية ضخمة وبوابات أمامية مُبهرة بمرائبَ تسع سيارتين وأسيجة شجيرات الأزالية مشذبة بعناية. سمعتُ ما يشبه نباح كلب ضخم في مكان ما. نبح ثلاث مرات بصخب، وبعد ذلك، وكما لو أن أحدا ما وبّخه بشدة، توقف فجأة وعادت الهدوء ليستبد بالأرجاء.

وبينما كنت أتبع الخريطة الصغيرة في الدعوة، انتابني هاجسٌ غامض ومربك. شيٌ ما لم يكن مضبوطا. أولً، غياب الناس في الشارع. فمنذ نزولي من الحافلة، لم أر مارا واحدا. مرت سيارتان، لكنْ كانتا في طريقهما نحو أسفل المنحدر، وليس إلى أعلى. لو كان حفلٌ على وشك البدء هنا يُفترَض أن أرى أشخاصا أكثر. لكن الحيّ بأكمله كان ساكنا وصامتا، كما لو أن السحب الكثيفة في الأعلى قد ابتلعت كل الأصوت.

هل أسأتُ الفهم؟! أخرجتُ الدعوة من جيب المعطف لأعيد التحقق من المعلومات، ربما أخطأت قراءتها. راجعتُها بحرص لكنْ لم أجد أي شيء خاطئ. أنا في الشارع الصحيح، في المحطة الصحيحة، في التاريخ والموعد الصحيحين. أخذتُ نفَسا عميقا لأهدّئ روعي وانطلقتُ مجددا. الشيء الوحيد الذي استطعتُ فعله هو أن أصل إلى قاعة الحفل وأرى.

عندما وصلتُ للمبنى أخيرا، كانت البوابة الحديدية الكبيرة مُغلقة بإحكام. سلسلة غليظة ملفوفة حول البوابة ومعقودة بقفل ثقيل. لا أحدَ في الأرجاء سواي. تمكنت من رؤية موقف للسيارات متوسط الحجم خلال فتحة ضيقة في البوابة، لكن ولا سيارة واحدة مركونة هناك. أعشابٌ صغيرة نمت بين الأحجار المرصوفة، وبدا المرآب كما لو أنه لم يُستخدم منذ مدة طويلة. رغم كل ذلك، أخبرتني اللافتة الكبيرة على المدخل بأن تلك بالفعل قاعة الحفل التي كنت أبحث عنها.

ضغطت على الزر في الإنتركوم بجانب المدخل، لكن لم يرد أحد. انتظرت قليلً ثم ضغطتُ الزر مُجددا، لكن لا ردّ. نظرتُ إلى ساعتي. يُفترض أن يبدأ الحفل بعد خمسة عشرة دقيقة. لكنْ لا علامة على أن البوابة كانت ستُفتح. بوابةٌ تقشر طلاؤها وارتسمت عليها بُقع وبدأت تصدأ. لم أستطع التفكير في أي شيء آخر يمكنني فعله، لذا ضغطتُ على زر الإنتركوم مرة أخرى، مُبقيا عليه إصبع فترة أطول، لكنّ النتيجة كانت كسابقتها، صمتٌ عميق…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *