لست آمن من أن يتسبب عجزي وضعفي في دفني تحت رمال كثبان “فم جول” وقد سلبتني ما بقي في  من جهد ( سلمة)

 

*أعدها للنشر: أحمد حمدان

في هذه الحلقات المثيرة جدا، والتي أعدها مصطفى سلمة ولد سيدي مولود، الناشط الصحراوي الحقوقي والسياسي المبعد من مخيمات تيندوف إلى موريتانيا، يروي والده، المجاهد سلمة سيدي مولود، كيف التحق بأول كتيبة لجيش تحرير الجنوب، قطعت عمق الصحراء بهدف إسقاط القاعدة الجوية الفرنسية في مدينة “أطار” شمال موريتانيا… كانت بقيادة محمد بنحمو المسفيوي، قبل أن يخلفه علال لخميسي، ومعه عْلي المسفيوي نائبا له.

انضم إليهم سلمة سيدي مولود، وسار بهم، في فبراير 1957، دليلا عبر أودية الساقية الحمراء إلى ضواحي مدينة السمارة، ومنها سيكون الانطلاق نحو الهدف، في ظروف طبيعية وعرة، ما بين صحارى قاحلة، وجبال ومغارات وأحجار، وجِمال وبنادق ورشاشات… وفي هذه الطريق، ستلاقي الكتيبة الأهوال، جنود فرنسيون ومجندون موريتانيون وطائرات وقنابلها الجحيمية، إنها “القيامة الآن” (Apocalypse Now)، مع فارق: أن المخرج الأمريكي فرانسيس فورد كوبولا يرويها في فيلم، والمجاهد الصحراوي سلمة سيدي مولود يرويها في معركة حياة أو موت دارت رحاها على أرض الواقع…

 

شعرت لأول مرة بالعجز الكلي ولم أعد أقوى على الوقوف

 

يوم 22 فبراير 1957.. مع حلول الظلام، استجمعت قواي ونزلت من “القلب” مكملا مسيرتي نحو الشمال. لا أعرف تفاصيل الأرض أمامي ولا معالمها، ولا هل هي مأهولة أم خالية، كلُّ ما ـأعلمه أنني لست في مأمن ما لم أتجاوز الحدود الفرنسية الإسبانية.

بعد ساعتين تقريبا من الجر، اعترضتني كثبان رملية في الجهة الغربية من “فم جول” الذي مررنا به قبل ثماني ليالٍ في طريقنا نحو أطار.

كانت الكثبان، مع الحالة التي أنا عليها من الضعف والإصابة، أشبه بالجبال، وصعودها أشد وأثقل علي من صراعي مع الصخور أثناء صعود جبل “تكل”.

الكثبان ليست كالأراضي الصخرية حيث تجد ما تتشبث به لمساعدتك على التسلق، والأسوأ أن أسفل منك تربة لينة تغوص فيها الرجل والعكاز-البندقية. وتبقى عالقا ولا من ينتشلك. وجدت الحل في السقوط على ركبتي واستكمال الصعود زحفا حتى أبلغ رأس الكثيب.

كنت لما أبلغ القمة، أحيانا أجلس وأدفع جسدي لينزلق نحو الأسفل، وأحيانا أنزل أتوكأ على البندقية.

كان علي أن أبذل جهدا مضاعفا عما ألفته في السابق، وقد استنفدت كامل جهدي في الأيام الستة السالفة. فما إن أصعد كثيبا بشق الأنفس حتى يعترضني آخر. وليس أمامي خيار غير مواصلة الهروب، فما زلت في قلب أراض معادية.

كانت تلك الليلة أشد ما مر بي حتى الساعة. شعرت فيها لأول مرة بالعجز الكلي، ولم أعد أقوى على الوقوف، بالكاد استطيع مواصلة الزحف وببطء شديد.

ولو لا نار خافتة تلوح في الأفق أمامي كلما صعدت قمة أحد الكثبان، لكنت فشلت وانهارت عزيمتي.

كانت تلك النار أملي الوحيد في النجاة، وإرادة الوصول إليها تدفعني للاستمرار رغما عن التعب والإجهاد، فلم أعد أملك جهدا لإضافة يوم جديد.

 وإذا طلع النهار يجب أن أختبئ. ولست آمن من أن يتسبب عجزي وضعفي في دفني تحت رمال كثبان “فم جول” وقد سلبتني ما بقي في  من جهد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *