قبل عقود قليلة من الزمن، كانت لمغرفة الخشب، أو تاغنجة أو العاشق، كما يلقبونها في العديد من البوادي المغربية حظوة خاصة في شهر رمضان، إذ عادة ما ترتبط وجبة الفطور بالحريرة، وهذه الأخيرة بالمغرفة.

 فما أن يسمع اسم الاولى حتى تحضر الثانية، لكن في الوقت الحالي مس التغيير عديد من جوانب وتفاصيل وجبة الفطور.

لقد حلت عديد من الوجبات محل أخرى، وكثرت الحلويات والمقليات والمرطبات، وهي أمور دخيلة، يمكن اعتبارها مجرد نوافل للفطور لا غير.

 ومقابل ذلك انحسرت بعض الاطعمة وتم التخلي عن أخرى، اصبحت في حكم الزوائد أو المنسيات.

كما تم تعويض المغرفة، بملعقة الألمنيوم، أو ملعقة الكريستال..

وفي موائد مقترة وفقيرة حضرت ملعقة البلاستيك والمغرفة الصينية أو الشينوية حسب الاسم الذي أصبح يطلق عليها.

ورغم المنافسة الضارية التي لحقت بمغرفة العود، وسيادة ملاعق الالمنيوم، ورخص ثمن المغرفة الشينوية والبلاستيكية، فإنها ما زالت تحظى باحترام وتقدير كبيرين رغم غلاء ثمنها، وانحسار صناعتها وقلة حضورها في الأسواق.

الله يرحم مغارفنا

يبدو أن وعي صناع المغارف بقوة المنافسة دفعهم الى إحداث تغييرات كبيرة في شكل المغرفة، إلى أن أصبح وزنها الحالي أقرب كثيرا من وزن ملعقة الالمنيوم، وأحيانا أخف منه، كما انحصرت صناعتها في إشعال خشب الليمون الذي يميل لونه الى الاصفرار، والليونة، إضافة إلى رائحته الجميلة، خلافا لأنواع الخشب الأخرى التي كانت تصنع منها مغارف الماضي.

كان الناس يميلون في الماضي إلى الخشونة، كل شيء يريدونه صلبا وخشنا، وكبيرا، حتى لا يسهل انكساره وإتلافه

 إذ أن مغرفة الماضي يمكن أن تعمر أعواما، مع استعمالها على الدوام في كل أغراض المطبخ والأكل، وقد لا يهم اسوداد لونها أو انكسار طول قبضتها، بقدر ما يهم أن تؤدي دورها كاملا.

 وهذا الوضع لا يحدث في الوقت الحالي، فالناس يشترون مغارفهم مع حلول شهر رمضان، فهم يميلون الى التجديد والتغيير، ولا يفضلون الاحتفاظ بالاشياء القديمة جدا.

بل يمكن القول إن أدوار المغرفة اقتصر استعمالها في أيامنا، على شهر رمضان، وما دون ذلك فإنها تختفي، وقد يصبح ظهورها في الأسواق أو المطاعم الشعبية التي تقدم الحريرة، أو حتى في المطابخ المنزلية مشهدا نادرا جدا.

وقد ارتبطت صناعة المغارف بتوقيت شهور الصيف التي تسبق عادة شهر رمضان، حيث يخزن الصانعون أعدادا كبيرة منها، فيما يتحدد موسم بيعها خلال شهر شعبان وخصوصا في الاسبوعين الأخيرين منه، وقد يمتد ذلك حتى الأسبوع الأول من شهر رمضان، وبعد ذلك يعم الكساد وينزل ثمنها إلى درهمين أو أقل من ذلك.

ففي الماضي لم تكن هناك مهنة خاصة بصناعة المغارف، ولم يكن هناك صناع يدعون باسم “المغارفية”، وإنما كانت تدخل ضمن لائحة المنتوجات الخشبية التي يصنعها النجارون، فكنا نجد في عديد من المدن المغربية نجارين يصنعون محاور المحارث، والقدوح، والقصع، وبراميل الخشب، وسطول الخشب، التي كانت تستعمل على نطاق واسع في الحمامات العمومية ويطلق عليها (القباب)، إضافة إلى المغارف.

كانت المغارف تصنع في الماضي، باستعمال أسلوب الحفر على الخشب، وهي عملية صعبة، تشبه الى حد بعيد عملية نحث تتطلب قدرا كبيرا من المهارة والدقة، فيما أصبحت صناعة المغارف اليوم، أسهل بكثير، حيث عوضت آلة الحفر، مهارة وصبر الصانع، فأصبحت المغرفة أرق وأخف وأملس كثيرا من نظيرتها القديمة التي كانت تتميز بوزنها الثقيل، وميلها الى الكبير والطويل، واستعمال كل أنواع الخشب في صناعتها.

وباستثناء بعض المدن التي توجد فيها أسواق خاصة باقتناء المغارف، كفاس ومكناس والصويرة ومراكش، فإن اقتناء المغرفة يبقى بحكم العادة مرتبطا بالباعة المتجولين، وهي فئة ترتبط بتجارة المواسم، وتخضع لاتجاهات حاجة المستهلك في فترات دون غيرها.

وبذلك فإن مشهد بائع المغارف يرتبط بصورة شخص يحمل بضاعته في قفة مع نماذج منها في يده، أشبه بسهام بيضاء يطوف بها الأزقة والشوارع، أو يقف بها في مداخل الأسواق وجنباتها.

ويتراوح ثمن المغرفة الواحدة ما بين درهمين ونصف إلى أربعة دراهم، فيما يتم اقتناؤها بالجملة من الصانع بدرهمين فقط.

ويتفق عديد من الصناع الذين ما زالوا يزاولون صناعة المغارف، على أنها صناعة قليلة الربح، محفوفة بخطر الكساد، إضافة إلى انحصار تجارتها في فترة زمنية لا تزيد عن الشهر.

يقول الصانع (إدريس.ك): “أصنع المغارف منذ سنوات، وقد ورثت هذه الحرفة عن والدي. إن مردودية المغارف قليلة جدا لأن خشب الليمون الذي نصنعها منه غالي الثمن، وفي عديد من الأحيان غير متوفر في السوق، وفوق ذلك فإن إعداد كمية منها يتطلب العمل ثلاثة شهور قبل شهر رمضان.

وفي أحسن شروط البيع، فانا لا أربح منها كثيرا، اما إذا لم تبع في شهر شعبان، فهذا يعني أنها لن تباع بعد ذلك ولو بنصف ثمنها، مما يفرض علي ان أوفر لها مكانا لحفظها طول السنة”.

وتابع إدريس قائلا: “الغريب، أنه في كل مرة أعاهد نفسي بانه تكون محنتي الاخيرة مع المغارف، لكن ما ان يقترب شهر رمضان حتى أنسى كل تحفظاتي، وأشرع من جديد في محنة أخرى، إنها البلية وصافي”.

الصانع (بريك.م) تحدث بمرارة عن المآل الذي آلت إليه هذه الحرفة، وقال: “في الماضي كان للمغارف شأن كبير، وهي تباع بشكل كبير في شعبان، وبدرجة أقل قليلا في رمضان، لكن ايضا، لا ينقطع بيعها خلال باقي شهور السنة.

 فكل “حرايرية” مدينة مراكش المشهورين كانوا يقتنون مغارفي، مثل كبور لحرايري، ماغوس، فاضمة ملات لحريرة، وكل حرايرية باب دكالة، وسوق الخضر، لكن من بقي على قيد الحياة من هؤلاء، بدل المغارف بملاعق الالمنيوم، وهذا طبيعي جدا، فالملاعق تغسل ولا تتكسر، إضافة الى أنها تدوم فترة أطول، أما مغارف اليوم فهي صغيرة، بوزن أخف من الريشة.

 ويكفي أن تسقط على الارض لتتكسر وينتهي أمرها، عكس مغارف أيام زمان، فقد كانت قوية، ويمكن لها في أسوأ الأحوال أن تعمر لأكثر من عام، وأتساءل هل يمكن اليوم أن تجد شخصا يقبل بشرب حريرته بهذا النوع من المغارف؟ قطعا لا وأؤكد لك أنك لن تعثر عليه حتى في البوادي والقرى النائية!”.

الملعقة فريضة مؤكدة

ومقابل المغارف التي تراجع حضورها بشكل كبير، فإن حضور ملعقة الالمنيوم، أضحى فريضة مؤكدة في مطابخ البيوت والمطاعم، لاتقبل المنافسة، وفوق كل منافسة، لا أحد يستطيع أن يستغني عنها، ولا أحد يؤمن بغيرها، فهي تشكل عصب أواني الطبخ وتناول الاطعمة والاشربة.

 ومنها الصغير والكبير، والجميل والخشن، والجيد والقوي، والسهل الانكسار، ومنها من يسود لونها، والاصيلة التي تظل محتفظة بلمعانها وجودتها، والثقيلة من نوع اينوكس وهي غالية الثمن، والخفيفة.

 وهي أنواع كثيرة، معظمها مزور ويحمل أسماء شركات عديدة، ويقع الاقبال عليها بشكل كبير، وتمثل الانواع الاكثر انتشارا في البيوت المغربية، نظرا لقلة ثمنها.

وكثير من ملاعق الالمنيوم مستورد من بلدان آسيوية واوروبية، وبعضها يصنع في المغرب، أو يدخل الى الاسواق المغربية عبر مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، وفي المدة الأخيرة انتشرت أنواع أخرى من الملاعق في أسواق منطقة الشمال الشرقي مهربة عبر الحدود الجزائرية المغربية وهي تحمل في معظمها أسماء شركات أجنبية معروفة.

ورغم توفر الملاعق بصورة دائمة في المطابخ المنزلية، إلا أن الاقبال عليها يزداد بشكل كبير خلال شهر رمضان، ولا يتعلق ذلك بحاجة ماسة تستدعي اقتناءها، بل فقط لوجود رغبة في تجديد ما بلي منها، أو لكون بعض الاسر المغربية لا تفضل أن تملأ مائدة فطورها بملاعق من أشكال متباينة ومختلفة.

 كون وجبة الفطور، أصبحت تحظى لدى المغاربة بأهمية بالغة، يكون التنسيق في أطعمتها وحلوياتها وأشربتها، مطبوعا بتناغم واضح، لذلك يكون الفطور الوجبة التي تتميز بتوازن أوانيها ووحدة ملاعقها وتشابه كؤوس شرابها، وذلك على قاعدة: “العين هي اللي تتاكل” عناية على جمالية تأثيث مائدة الفطور ومشهد أصناف أطعمتها الشهية والمريحة للعين.

وقد سألنا التاجر (عبد الله.ب) صاحب محل كبير لبيع أثاث المطبخ بمدينة الرباط، عن أنواع الملاعق التي يعرضها في متجره والخاصة بشهر رمضان، فقال: “اقتنيت مجموعة من السلع الخاصة بشهر رمضان، ومن بينها الملاعق وهي أصناف، منها الموحدة التي تكون مع الملاعق، الاشواك والسكاكين، وهي أنواع تندرج من الصنف الغالي الثمن، مرورا بالأصناف المتوسطة الجودة ثم الاصناف الرخيصة الثمن، والى جانب ذلك هناك الملاعق التي تباع بالمفرد، وأيضا فيها الجيد والأقل جودة، والعادي جدا، أما أثمنتها فتندرج حسب نوعية جودتها، وعلى العموم فان المستهلكين يميلون بشكل كبير خلال شهر رمضان الى اقتناء أنواع الملاعق المتوسطة الجودة، إضافة إلى فئة قليلة من المستهلكين تفضل الانواع الجيدة وبشكل خاص تلك الموحدة مع سكاكينها وشوكاتها”.

وقد لاحظنا في العديد من الاماكن التي يكثر فيها البائعون الجوالون سواء من يعرضون بضاعتهم على الارض أو في عربات صغيرة مدفوعة، بداية تغيير موسمي في بضاعتهم، حيث كان الشهر الماضي مناسبة لعرض اللوازم المدرسية، لكن بدأ العديد منهم في عرض بعض لوازم شهر رمضان، من أواني خزفية خاصة بالحريرة وكذا الملاعق، ولوازم إعداد الحلويات..

سألنا أحد الباعة الذي يعرض دزينة كبيرة من الملاعق على متن عربة، عن عدد الملاعق التي يبيعها يوميا فقال: “ما بين مائتين وثلاثمائة ملعقة، فقد اشتريتها من أحد تجار الجملة بالدار البيضاء، بدرهم للملعقة وأبيعها بدرهم ونصف، لذلك أحصل على ربح لا بأس به، لكنه مع الأسف ربح غير دائم، وأتمنى أن أنهي بضاعتي قبل حلول شهر رمضان، لأنه بعد ذلك يصبح ما تبقى منها مجرد خسارة، لا أستطيع تحملها”.

ولكن هناك فئة أخرى من المواطنين تفضل اقتناء ملاعق من النوع القديم، وهذه الفئة هي في الاصل من رواد الجوطية.. وطبعا فان بائعي الملاعق القديمة ليسوا بالقليلين، فهم يوجدون في كل الاسواق، وخصوصا منها الأسبوعية.

 فهم يوجدون في سوق الغزل بالرباط، والقريعة بالدار البيضاء، وسوق الخميس بمراكش وفي أكثر من مكان بمدينة القنيطرة..

 ففي سوق الغزل بالرباط عاينا وجود أزيد من عشرة أشخاص يعرضون بضاعتهم من الملاعق والاشواك والسكاكين القديمة، علما أن ثمنها لا يزيد عن درهم واحد، وسألنا شخصا كان ينقب وسط كومة من الملاعق والسكاكين والاشواك عن نوعية الملاعق التي يبحث عنها فقال: “المهم، ان تشتري ملاعق قوية وصالحة، فلدي في البيت ملاعق قديمة اشتريتها من “العرام” ما زالت تعمل منذ سنوات، إنها أفضل بكثير من الانواع الجديدة…”.

الغريب أن مصدر الملاعق القديمة كلها من بلدان أوروبية، أنهت مدد صلاحيتها  في المطابخ وبعد التخلص منها.. يتم جمعها من قبل بعض أفراد الجالية المغربية من رواد الميخالا مع باقي ما يجمعونه، إلى حين عودتهم إلى المغرب خلال فترة عطلهم، فيتم بيعها في أسواق خاصة، أضحت ملاحظة بشكل كبير ومنتشر في العديد من المدن، وطبعا هناك العديد من مفضلي الملاعق القديمة الذين يترحمون على جاليتنا الموهوبة في البحث والتنقيب في حفريات الملاعق في مزابل البلدان الاوروبية، الذين فطنوا الى هذه الطريقة وهي طريقة جديدة لجمع مبالغ مالية تكفي لقضاء العطلة، وذلك على قاعدة أن العديد من أفراد جاليتنا لا يأتون بمال من هناك، ولا يصرفون شيئا من جيوبهم هنا! فالخردة تتكفل بمصاريف ونفقات العطلة.

مغرفة لكن شينوية

المنافسة تأتي من كل صوب وحدب لإغراق السوق المغربية بكل أنواع الملاعق من قديمة وجديدة، ومهربة، وفي الشهور الأخيرة ظهر منتوج آخر من المغارف الخشبية من صنع صيني، يمكن معاينتها في العديد من متاجر ودكاكين درب عمر بالدار البيضاء التي تخصصت في بيع المنتوجات الصينية، المترددون على هذه المتاجر يطلقون عليها (المغرفة الشينوية).

 وطبعا لا توجد مغرفة أصلها شينوي، ففي الصين لا توجد إلا عيدان الأكل، التي يأكلون بها حبات الارز، ويتذوقون بها أنواع المرق، لكن ما دامت السوق المغربية في حاجة الى المغارف الخشبية، التي ربما يعتقد المستهلك الصيني أنها مجرد لعبة، فإنه من السهل اغراق السوق المغربية بمغارف مصنوعة بالصين.

 تاجر بسوق درب عمر يقول جوبا عن سؤال عن درجة الاقبال التي تلقاها المغرفة الصينية لدى المستهلك المغربي،: “المغرفة الشينوية تباع على شكل دزينة من المغارف يصل عددها الى ست مغارف، تبعا للفهم الصيني المسبق لعدد أفراد الاسرة المغربية، فأقل فطور رمضاني، لا يقل عدد المتحلقين حول مائدته عن ما يزيد على أربعة أو خمسة أفراد، وهذا يعني ضرورة اقتناء دزينة كاملة من المغارف، وأي اضافة في عدد أفراد الاسرة يفترض اقتناء دزينتين.

 انهم الصينيون، لا يهمهم معرفة رمضان، ولا حريرة رمضان، لكن يهمهم ما يحتاجه المغاربة من أدوات في أكلهم وشربهم، انها عقيدة التجارة والصناعة”. مضيفا: “أنظر إنها أخف بكثير من المغارف المغربية، وخشبها جميل، وثمنها أرخض، إذ أن ستة مغارف شينوية بعشرة دراهم مقابل ست مغارف مغربية بأزيد من عشرين درهما”.

وطبقا لا مجال للمقارنة، فالمغرفة الشينوية تبدو أجمل وأخف وأرخص ثمنا، في حين أنه لا وجود للمغرفة المغربية أصلا في كل محلات سوق درب عمر، فحتى لو كان ثمنها مضاعفا فهي غير موجودة، والحال، وكما سبق الذكر فان اقتناءها هو عرضته للصدفة، فقد يحظى مقتنيها بصدفة مباركة مع بائع متجول، وقد لا يحظى بملاقاته.

ومع ذلك، فان المغرفة المغربية يجذبها قانون التراجع والاختفاء رغم مكابرات بعض صانعيها، الذين مازالوا مأخوذين بحمأة تصنيعها مع اقتراب شهر رمضان، لكن قدرها أنها تتوارى باطراد كبيرة كل سنة، أمام شدة وقوة منافسة الملاعق التي استوطنت بشكل نهائي موائد المغاربة، حتى أن القليل من المواطنين الذين يعاكسون السائد ويفضلون الأخذ بنذرة الاشياء، لا يحظون بفرصة لاقتناء سهل وميسر لمغرفة مغربية، خارج قانون تنقلات البائعين الجوالين.

ومع ذلك، فرب اقتناء مغرفة مغربية كيفما كانت ظروف وأوضاع اقتنائها أفضل من مغرفة شينوية تقتنى على مضض، متبوعة بتعليق مريب: “هاذ الشينوا مساخيط.. بحالهم بحال مغارفهم!”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *