إعداد: إلياس زهدي

حلقة 14

الحارس الليلي
ريموند كارفر (1938 -1988)

 

-مَن هناك؟!

لم يسمع ردا. ولم يكن بمقدور الحارس أن يرى شيئا. ورغم تواصُل عزيف الريح بين أوراق الأشجار ظل، على امتداد الطريق، يسمع وقع أقدام تتقدّمه.

ليلة من ليالي مارس. السماء ملبدة بالغيوم والضباب الكثيف يغلف كل شيء. خُيل إلى لحارس أن الأرض والسماء، وهو نفسه مع أفكاره، قد توحّدوا كلهم في هيئة واحدة هائلة منيعة تسربلت بالسواد. كان يتلمس طريقه في تلك العتمة الكثيفة.
صاح، من جديد، سائلا:
-من هناك؟
وبدأ يتخيل أنه يسمع همسا وضحكة مكتومة.
– من هناك؟
-أنا.. أيها الصديق.
رد عليه صوت رجل عجوز.
-ولكنْ من تكون؟
-أنا.. مسافر.
عند ذاك صرخ الحارس بغضب، وهو يحاول أن يخفي رعبه:
-أي نوع من المسافرين أنت؟ ماذا تفعل داخل المقبرة في مثل هذه الساعة، بحق الشيطان؟
-ماذا؟.. أتقول إنها مقبرة؟!
-وماذا تظنها؟ بالطبع، هي مقبرة. ألا ترى ذلك؟
رد عليه الرجل العجوز، متنهّدا:
-يا رب السموات! لكني لا أرى شيئا. لا أستطيع حتى أن أرى يدي أمام وجهي.
-ولكن من تكون؟
-أنا حاجّ يا صديقي.
شرع الحارس يغمغم في نفسه بتذمر:
-الشياطين وطيور الليل… نوع جيد من الحجاج… وكذلك السكارى. يسكرون طوال النهار ويخرجون في الليل ليجوبوا الطرقات.
ورد عليه، بعد لحظة صمت:
-خُيل إليَ أني سمعت أكثر من صوت، كأنكم اثنان أو أكثر.
-بل لوحدي يا صديقي، لوحدي. آآآه… كم نرتكب من ذنوب
-وكيف جئت إلى هذا المكان؟
-ضللت طريقي أيها الطيب. فأنا متجه إلى ميتريفسكي ميل، لكن يبدو أنني قد تُهت.
-نعم، هذا صحيح، فالطريق إلى ميتريفسكي ميل ليست من هنا. كان عليك أن تتجه إلى اليسار. تخرج من المدينة مباشرة لتسلك الطريق الخارجي. يبدو أنك توقفت في المدينة لتشرب بضعة كؤوس، ولهذا أنت الآن تائه.
-نعم، يا صديقي، فعلت ذلك. لن أخفي ذنوبي، ولكن ماذا أفعل الآن؟
-واصلْ حتى نهاية الطريق، ثم انعطف يمينا حتى تصل البوابة، وهي نهاية المقبرة، افتحها وغادر، رافقتك السلامة. لكنْ احذر من أن تسقط في المستنقع. بعد المقبرة، سر بمحاذاة الحقول حتى تصل الطريق الرئيسي.
-ليباركك الرب يا صديقي، ولْتحمِك السموات. كن رحيما معي، أيها الرجل الطيب، ورافقني حتى البوابة.
-لا، ليس لي وقت لذلك، عليك أن تذهب لحالك.
-كن رحيما، وسأصلي من أجلك. فأنا لاأستطيع أن أرى شيئا. المرء لا يستطيع أن يرى كفيه أمام وجهه بسبب الظلمة. دلني على الطريق يا سيدي.
-ليس لدي الوقت الكافي كي أكون دليلَك. هذا غير ممكن يا سيدي.
-بحق السيد المسيح، أتوسل إليك أن تدلني على الطريق، فأنا لا أرى شيئا. ثم إنني أخاف أن أسير وحيدا في المقبرة. إنه أمر مرعب ومخيف.
تنهد الحارس وقال:
-يبدو أن لا خلاص منك. حسنا، هيا بنا.

وسارا معا، متلاصقين وصامتين. كانت الريح المشبعة بالرطوبة تضرب وجهيهما مباشرة، بينما خشخشة الأشجار الخفية تنثر عليهما قطرات الماء، وكان الطريق مغطّى تماما بالوحل.
وبعد فترة صمت طويل، قال الحارس:
-نسيت أن أسالك. كيف دخلت المقبرة والبوابة مقفلة؟ هل تسلقت السور؟ إذا فعلت ذلك، فهذا آخر شيء أتوقعه من رجل مسنّ مثلك.
-لا أدري يا صديقي، لا أدري. لا أتذكر كيف حدث هذا. إنه عقاب من الله… إذن أنت حارس هنا يا صديقي؟
-نعم.
-الوحيد على كل المقبرة؟
في تلك اللحظة صفعتهما لفحة ريح هوجاء فتوقفا في مكانهما وانتظرا حتى تجاوزتهما. ثم واصلا سيرهما. أجاب الحارس:
-نحن ثلاثة، أحدنا مريض بالحمى والآخر نائم ويستلم المداومة من بعدي.
-آآآه… أردت فقط أن أتأكد يا صديقي. يا لها من ريح، تعوي كأنها وحش. أوووه…
-ومن أين أتيت؟
-من مكان بعيد يا صديقي. أنا من فولوغدا. أتنقل من مكان مقدّس إلى آخر وأصلي للناس. ليحفظني الله ويشملني برحمته.
توقف الحارس كي يشعل غليونه. انحنى خلف ظهر المسافر وأشعل بضعة عيدان كبريت. وأضاء وهج العود الأول لوهلة على الجانب الأيمن من الطريق شاهدة قبر بيضاء بمجسّد ملاك وصليب أسود. وتوهج العود الثاني وانطفأ بسبب الريح. بدا كأنه برق مندفع إلى اليسار، فكشف جانب شيء أشبه بسقيفة. وأضاء عود الكبريت الثالث جانبَي الطريق كاشفا عن شاهدة القبر والصليب الأسود وسقيفة قبر طفل. غمغم الغريب، متنهدا بصوت مرتفع:
-النائمون الغائبون، النائمون الأعزاء. كلهم سواء في نومهم، الأغنياء والفقراء، العاقلون والحمقى، الطيبون والأشرار. لا فرق بينهم على الإطلاق، وسيبقون نائمين جميعا حتى النفير الأخير. لتكن جنة الخلد مأواهم يسكنونها آمنين.
علّق الحارس:
-الآن نحن نتحرك ونتحدث عنهم، ولكن سيأتي اليوم الذي نرقد فيه إلى جانبهم.
-سنموت جميعا دون شك. ليس هناك من لا يموت. سنموت آآآه… وأفعالنا وأفكارنا شرّيرة وماكرة ومخادعة…
-نعم، لكنك ستموت يوما.
-دون شك يا صديقي.
تابع الحارس تعليقه:
-الموت أسهل بالنسبة إلى حاجّ منه على أشخاص مثلنا.
-الحجاج أنواع، هناك الحقيقيون الذين يخافون الله ويحرصون على عدم معصيته وهناك التائهون، الضائعون في المقابر، يوسوس لهم الشيطان بشتى المعاصي. يستطيع أحدهم الآن أن يفتح رأسك بفأس ويضع حدا لحياتك.
-لماذا تتحدث معي بهذه الطريقة؟
-أوووه، لا شيء، مجرّد خيالات. أظن أننا وصلنا البوابة، هيا افتحها أيها الرجل الطيب.
تحسّس الحارس طريقه نحو البوابة وفتحها، ثم أمسك الحاج من كم ردائه وقاده إلى الخارج قائلا:
-هذه نهاية المقبرة، والآن عليك أن تسير عبر الحقول المفتوحة حتى تصل إلى الطريق الرئيسي. فقط حاذر من السقوط في الغدير القريب من هنا.

تنهد الحاج، بعد لحظة صمت، وقال:
-لا أظن أني سأذهب إلى ميتريفسكي ميل. لا أرى سببا لذلك، سأبقى معك بعض الوقت يا سيدي.
-ولأي سبب تبقى معي؟
-أوووه، أظن أن البقاء معك أفضل.
-إذن، فقد وجدتَ رفقة حسنة. أرى أنك تحب بالمزاح أيها الحاج.
أجاب الحاج، وهو يكتم ضحكة قوية:
-بصراحة، نعم، أنا كذلك. آآآه أيها الرجل الطيب، أراهن أنك ستظلّ تتذكرني سنوات طويلة.
-ولماذا سأظل أتذكرك؟
-لقد أتيتك من حيث لا تدري… فهل أنا حاج؟ لا.. أنا لست حاجا على الإطلاق.
-ومن تكون إذن؟
-مجرد رجل ميت. لقد قمتُ من تابوتي للتو… أتذْكُر صانع الأقفال غوبارييف، الذي شنق نفسه في أسبوع الكرنفال؟.. حسنا، أنا غورباييف.
-رجاء، قل شيئا آخر غير هذا.

لم يصدقه الحارس، لكن قشعريرة باردة سرت في جسده واستولى عليه رعب ضاغط، فاندفع متعجلا يتحسس البوابة. لكن الغريب أمسك به من ذراعه وصاح به:
-هَه.. هَه.. هَه، إلى أين أنت ذاهب؟ هل من اللياقة أن تتركني لوحدي؟!
صرخ الحارس وهو يحاول أن يتحرر من قبضة الغريب:
-اتركني، اتركني…
-توقّفْ! قلت لك توقفْ.. فلا تقاوم أيها الكلب القذر. إذا أردتَ أن تبقى بين الأحياء فتوقفْ وأغلق فمك حتى أقول لك. لو كنتُ أريد قتلك لكنتَ الآن ميتا منذ فترة. هيا.. توقفْ أيها الخسيس…
ومن شدة رعبه، أغلق الحارس عينيه واتّكأ على السور. وكانت ساقاه تهتزان بشدة. كان يريد أن يصرخ مستنجدا، لكنه كان يعرف أن صوته لن يصل أحدا من الأحياء. وكان الغريب واقفا إلى جانبه ممسكا بذراعه.

مرت ثلاث دقائق دون أن يتكلما. وأخيرا، كسر الغريب الصمت محدّثا نفسه:
-أحدهم مصاب بالحمّى والآخر نائم والثالث يرى حُجّاجا على الطريق. هل تعرف أن اللصوص أكثر شطارة منكم؟! توقفْ.. لا تتحرك!

ومرت عشر دقائق ساد فيها صمت مطبق. ثم فجأة، جلبت الريح صوت صفير. عند ذاك قال الغريب، وقد ترك ذراع الحارس:
-الآن يمكنك أن تذهب. هيا اذهب واشكر ربّك لأنك لا تزال حيا.

أطلق الغريب صفيرا أيضا وركض عبر البوابة، وسمعه الحارس وهو يقفز فوق الغدير.

كانلما يزال يرتعد رعبا. وعندما فتح البوابة وانطلق يركض وهو مغمض العينين، راوده إحساس داخلي ينذر بشر آت.

ولدى انعطافته إلى الطريق الرئيسي، سمع وقع خطوات مسرعة وصوتا يسأل:
-أهذا أنت يا تيموفي؟ أين ميتكا؟

وظل يركض حتى نهاية الطريق الرئيسي. وهناك لاح له ضوء خافت في العتمة. وكان خوفه وإحساسه بوقوع الشر يتعاظم ويكبر وهو يدنو من الضوء. قال، محدثا نفسه:
-يبدو أن الضوء قادم من الكنيسة. ولكن كيف حدث هذا؟ فليحمني الرب ويشملْني برحمته.

وقف الحارس برهة أمام النافذة المحطمة، ينظر برعب إلى المذبح. كانت هناك شمعة صغيرة، يبدو أن اللصوص نسوا أن يطفئوها. كان ضوؤها يهتزّ مع الريح فينشر بقعا داكنة حمراء فوق الأردية المتناثرة على الأرض، والخزانة المقلوبة وآثار الأقدام المنتشرة عند المذبح.

مر وقت والحارس متسمر في موضعه والريح تعوي ويختلط عواؤها بخشخشة وصليل الأجراس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *