دروس التواضع للكاتب الكبير السوداني الطيب صالح كانت تتراكم.. لكن درسه الكبير بالنسبة لي، كان في معنى إلتزام الكاتب والإعلامي بالمواعيد..!!

في حياتي المهنية المتشعبة، وفي مجال الصحافة بالتحديد، تعلمت دروساً مهمة في التواضع من كبار الكتاب الروائيين أمثال الطيب صالح، عبدالرحمن منيف، والطاهر وطار، حيدر حيدر، إسماعيل فهد إسماعيل، د. عبدالعزيز المقالح.. وغيرهم.. وعكسها من تجارب سيئة مع بعض آخر..

كنت كثيراً ما أذكر هذه الدوروس المهمة حينما كنت أتحدث عن الأدب والصحافة مع أصدقائي، فكانوا يلحون عليّ بتدوينها فربما سيتعلم منها البعض من الكتّاب والفنانين الذين لا يرون في مرآة هذا الوجود سوى ذواتهم..

لم آبه للأمر كثيراً، ولم أدون شيئاً عن هذا، لكني وأنا أتابع بمرور السنين والأشهر والأيام ما يصدر عن الكثير من الكتاب والشعراء (الذين بعضهم لم ينشر كتاباً واحدا بعد) من تصريحات أو ما يكتبونه عن الآخرين بنية الإنتقاص والتجريح والإلغاء وبروح انتقامية، وجدت نفسي أتذكر تلك الدروس الكبيرة في التواضع لتلك الأسماء المتوهجة عبر السنين.

ففي السنوات ما بين نهاية التسعينات وبداية القرن الجديد عملت محرراً ثقافيا في صحيفة “الاتحاد” الظبيانية بدولة الإمارات العربية المتحدة.. وفي فترة ما بين هذه السنوات كنت مكلفاً بتحرير (الملحق الثقافي) الأسبوعي للصحيفة..وكان عدد لا بأس به من الصحافيين والفنيين من مختلف الجاليات العربية يعملون فيها..وكان من بين هؤلاء مجموعة مهمة من الأخوة السودانيين..

ولأن الجالية السودانية في دولة الإمارات العربية المتحدة كبيرة، فقد نصحني الأخ الأستاذ الطيب الذكر (الفاتح التيجاني)، وكان في موقع إداري وتحريري مهم، بأن أفاتح الكاتب الروائي الكبير (الطيب صالح) كي يكتب في الملحق الثقافي..وقد أمّن لي بطريقته رقم هاتفه في لندن.

كان الكاتب الكبير الطيب صالح في ذلك الوقت يعمل مستشاراً في اليونسكو، وكان قد ترك الكتابة الأسبوعية في مجلة (المجلة) التي كانت تصدرت في لندن..

لكني كنت محرجاً في مفاتحته بما يخص مبلغ المكافأة الأسبوعية على مساهمته..فاتحت إدارة الصحيفة..وكان في حينها الروائي الإماراتي الصديق (علي أبوالريش) يرأس تحريرها، فرحب بالأمر وطلب مني الإتفاق معه بأي شكل، فيكفي أن يكون اسمه في الصحيفة حتى تحقق إنتشاراً بين الجالية السودانية في الإمارات ..وهذا ما تحقق فعلا في ما بعد.

اتصلت بالكاتب الكبير..وكعادة الأخوة السودانيين، رحب بي بطيبة واحتفاء أخجلني.. فقد كنت على يقين بأنه لم يسمع باسمي قط .. وحينما فاتحته بالأمر..وقلت له بأن إدارة الصحيفة لا تتوانى عن دفع أي مبلغ يحدده..لم يجبني..وإنما سألني عن الكتّاب الذين يكتبون في الملحق الثقافي أيضاً، فقلت له يكتب فيه: عبد الرحمن منيف، حيدر حيدر، إسماعيل فهد إسماعيل، د.عبد العزيز المقالح، ولم أكمل بقية الأسماء..وإنما سمعته يقول لي جملة ظلت ترن في اذني لسنوات، ولاتزال، إذ قال لي: هذه رفقة طيبة..أنا موافق.

حين سألته عما يطلبه كمكافأة أحسسته محرجاً أكثر مني..وحينما ألححت عليه بالسؤال..ذكر لي ما كان يأخذه كمكافأة في مجلة (المجلة) ..وطلب نصف ذلك المبلغ..!…

وهكذا أعلّنا في العدد الجديد من (الملحق الثقافي) عن مشاركة الكاتب الكبير في الكتابة الأسبوعية في الملحق..فأحدث ذلك فرحاً بين الكثيرين من المثقفين، لاسيما في أوساط الجالية السودانية في ذلك البلد الكريم.. فصارت مبيعات الصحيفة تزادا يوم الخميس خصوصاً.

دروس التواضع للكاتب الكبير السوداني الطيب صالح كانت تتراكم..لكن درسه الكبير بالنسبة لي، كان في معنى إلتزام الكاتب والإعلامي بالمواعيد..!!

فقد حدث مرة.. إذ كان هو على سفر يخص عمله في اليونسكو..وكان يفترض أن تصلنا مقالته نهار يوم الثلاثاء كآخر موعد لاستلامها، إذ ان (الملحق الثقافي) يصدر كل خميس..لكن المقالة لم تصل..

وفي الليل اتصلتُ به، آخذاً بنظر الإعتبار فرق الوقت بين أبوظبي ولندن..فرد علي بنفسه..معتذراً بأنه وصل قبل ساعة من السفر..وأول ما فعله في البيت هو كتابة المقال الأسبوعي..وقد أنهاه لكن اتضح بأن جهاز الفاكس لديه بدون ورق..وأنه يعدني بأنه سينهض مبكراً لشراء ورق الفاكس وإرسال المقال..وهذا ما جرى..

فحينما وصلت صباحاً إلى الجريدة وجدت مقال الكاتب الكبير الطيب صالح على طاولة مكتبي.. بل وقيل لي بأنه اتصل على رقم الجريدة وطلبني ليتأكد من وصول المقال فأكد له أحد الموجودين في قسم الإنصات بأن المقال قد وصل وأني لم أصل الصحيفة بعد..

فاتصلت به..وحدثني بأنه نهض مبكراً ذاهبا إلى المحل القريب من سكنه قبل افتتاحه بحيث انتظر صاحب المحل إلى أن جاء..وأعتذر مرة أخرى على تأخره سائلاً إن كان المقال سيظهر أم أنه قد تأخر في إرساله..؟؟!!.

وحدث مرة أنه كان مسافراً إلى الجزائر ومنها كان عليه أن يسافر إلى نيويورك..فكتب مقاله في الفندق وأرسله عبر فاكس الفندق إلى الصحيفة في الموعد المحدد.

كل هذه التفاصيل كانت بالنسبة لي دروساً بليغةً في التواضع..

فمن يتصور أن الطيب صالح، هذا الكاتب الكبير الذي يُعد أحد اهرامات الرواية العربية، يتعامل مع صحافي شاب بهذا التواضع، ويقلق على إيصال مقاله في الوقت المحدد حتى لو كان على سفر..!!!”.

*الأديب العراقي برهان شاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *