إعداد: إلياس زهدي

حلقة 11

واقعة جسر أوول كريك

أمبروز غوينيث بيرس (1842 -1913)

وقف رجل في جسر السكة الحديدية في ألاباما الشمالية ناظرا إلى ماء النهر السريع مسافة عشرين قدما إلى الأسفل. كانت يدا الرجل خلف ظهره ومعصماه مقيدان بحبل. وثمة حبل يطوق عنقه بإحكام. كان الحبل مشدودا إلى خشبة قوية متصالبة فوق رأسه والجزء المتبقي من الحبل كان يتدلى عند مستوى ركبتيه. بعض الألواح الخشبية التي وُضعت على عوارض السكة الحديدية لدعم معادنها شكلت موطئا لقدميه وأقدام جلاديه. جنديان من جنود الجيش الاتحادي، يوجّههما رقيب، ربما كان في حياته المدنية يعمل نائبا لعمدة. وعلى مسافة قصيرة، وعلى المنصة المؤقتة نفسها كان ثمّة ضابط مسلح يرتدي بزته العسكرية بكامل رتبها. كان ضابطا برتبة نقيب. حارسان على طرفي الجسر، مسلحان بالبنادق، كانا يقفان في الوضع المعروف باسم “الدعم”، أي وضع البندقية عموديا أمام الكتف اليسرى وترك زندها يستقر على الساعد المنبسط عبر الصدر في وضع مستقيم؛ وضع رسمي وغير طبيعي يجبر الجسد على الوقوف باستقامة كاملة. لم يبد أن من واجب هذين الرجلين معرفة ما كان يجري في منتصف الجسر؛ لأن واجبهما كان يتلخص، ببساطة، في سد مخرجي المنصة التي كانت تعترض مركز الجسر.

خلف أحد الحارسين امتد الأفق انسابت السكة الحديدية بكيفية مستقيم داخل أعماق الغابة، القريبة، مسافة مائة ياردة، ثم انحرفت وغابت عن الأنظار. بالطبع، كان ثمة مخفر للحراسة يقع عند النهايات الخفية للسكة. كانت الضفة الأخرى للجدول عبارة عن أرض مفتوحة. منحدر سلس من الأرض، مغطى بحجاب من الجذوع العمودية، تطل من فتحات فيه فوهات البنادق. ومن خلال كوة وحيدة أطل خطم معدنيّ لمدفع نحاسي جعل الجسر تحت مرمى نيرانه. عند منتصف المسافة بين الجسر والحصن وقف المراقبون. كتيبة من المشاة في وضع “الاستراحة”، أعقاب البنادق على الأرض والمواسير تميل إلى الوراء قليلا تجاه الكتف اليمنى والأيادي مشددة على المقابض. عن يمين الخط وقف ضابط برتبة ملازم وطرف سيفه على الأرض ويده اليسرى تستريح فوق يمناه.

وقف الجميع بلا حراك، في انتظار ما ستفعل المجموعة المؤلفة من أربعة رجال. الحارسان اللذان كانا يقفان قبالة ضفتي الجدول ربما كانا تمثالين وُضعا هناك لتزيين الجسر. وقف النقيب، بذراعين متصالبتين، صامتا ومراقبا أعمال مرؤوسيه، لكن دون أن تبدر منه أية إشارة. الموت كبرياء جليل عندما يُعلن حضوره ينبغي أن يقابَل بكل تجليات الاحترام والتبجيل اللازمة، حتى من قبَل أولئك الأكثر دراية به. في أخلاقيات السلوك العسكري يعدّ الصمت والتركيز شكلين من أشكال الاحترام.

بدا الرجل الذي كان على وشك أن يُنفَّذ في حقه حكم الإعدام شنقا في الخامسة والثلاثين من العمر. كان مدنيا، قياسا إلى مهنته، وهي الفلاحة. كانت ملامحه وسيمة. أنف مستقيم، فم صارم، جبهة عريضة، يرتد عنها شعره الأسود المرسل ويتدلى خلف أذنيه حتى يلامس ياقة معطفه “الفروك”. كان له شارب ولحية مدببة، لكن دون سبلة على الجانبين. عيناه كانتا كبيرتين وذاتا لون رمادي داكن. وعلى وجهه كان ثمة تعبير مسالم وحنون لا يمكن توقعه في وجه رجل رقبته ملفوفة بحبل المشنقة. من الواضح أن هذا الشخص لم يكن قاتلاً مبتذلا. رغم ذلك، تنص القوانين العسكرية الليبرالية على إعدام أنواع كثيرة من الناس، والمهذبون منهم ليسوا استثناء.

بعد أن اكتملت التحضيرات، تنحّى الجنديان جانبا وسحب كل منهما اللوح الخشبي الذي كان واقفا عليه. التفت الرقيب إلى النقيب، أدى له التحية ووضع نفسه تماما خلف ظهر هذا الضابط، الذي خطا خطوة واحدة، مبتعدا. تركت هذه الحركات الرجل المدان والرقيب واقفين على طرفي الخشبة نفسها، التي غطت ثلاثة من روابط السكة. الطرف الذي وقف عليه المدني يكاد يلامس الرابطة الرابعة. كانت هذه الخشبة قد استقرت في مكانها معتمدة على ثقل النقيب. والآن، بعد أن تنحى النقيب جانبا، حل الرقيب محله. وفي إشارة من السابق سيتنحى الأخير وسيميل اللوح الخشبي وسيهبط الرجل المدان في الفجوة العازلة بين دعامتين. لقد بدا له هذا الترتيب بسيطا وفعالا. لم يكن وجهه مغطى بشيء ولم يكن ثمة غشاوة على عينيه. نظر في هذه للحظة بقلق إلى موطيء قدميه. ثم تحولت نظراته إلى دوامات النهر الهادر المتدافعة بقوة تحت قدميه. لفتت انتباهه قطعة خشب طافية، تابعها وهي تتخذ طريقها راقصة مع التيار. كم بدت له حركتها بطيئة، يا له من تيار كسول!

أغلق عينيه من أجل أن يركز تفكيره في زوجته وأولاده. لكن الماء يلامسه ذهب شمس الصباح الباكر وسحب الضباب الكئيبة المتماوجة تحت الضفتين على مسافة ما أسفل التيار، والحصن والجنود وقطعة الخشب الطافية.. كل ذلك شتت انتباهه. والآن، بدأ يشعر بشيء آخر زاد انشداهه. صوتٌ ما اخترق نسيج أفكارة الحائمة حول أحبائه. صوت ما عجز عن تجاهله أو فهمه، إيقاع معدني، حادّ ومميز، مثل ضربة مطرقة الحداد على السندان؛ له نوعية الرنين نفسه. تساءل في دخيلته عن كنه هذا الصوت وعما إذا كان بعيدا بعدا سحيقا عنه أو قريبا منه. لقد بدا الصوت بعيدا وقريبا في آن. يتكرر بانتظام، لكنه كان بطيئا، مثل قرع ناقوس للموت. أخذ ينتظر بفارغ الصبر كل دقة من دقاته وشعر -دون أن يدري لماذا- بالخوف. لقد أصبحت فواصل الصمت أكثر طولاً بالتدريج وصار التأخير مثيرا للسخط. ومع ندرة تكرار الصوت المتزايدة أصبح وقعه على أذنيه أكثر حدة وقوة . شعر به يؤذي أذنيه مثل نصل سكين؛ وخشي أن يشرع بالصراخ . ولم يكن ذلك الصوت سوى دقات ساعته، لا غير.
فتح عينيه ونظر، مرة أخرى، إلى الماء الجاري تحته. “لو كان بمقدوري تحرير يدي”، فكر، فأتخلص من الأنشوطة وأقفز في التيار. سأغوص لكي أتمكن من تفادي الرصاص وأسبح بقوة حتى أصل إلى الضفة، ثم أتخذ طريقي عبر الغابة لأصل إلى بيتي.. بيتي، الذي أحمد لله على أنه لا يزال حتى الآن خارج خطوطهم؛ زوجتي وأطفالي الصغار لا يزالون بعيدين عن أقصى نقطة وصلها هولاء الغزاة”.

عندما شرعت هذه الأفكار، التي لا مناص من تدوينها هنا في كلمات، تومض في ذهن الرجل المحكوم بالإعدام، بدل أن يفكّر فيها، أشار النقيب برأسه إلى الرّقيب، فتنحى الأخير جانبا.

كان بيتن فاركوهار مزارعا ناجحا ومن عائلة ألابامية عريقة تحظى باحترام كبير. ولأنه كان مالكا للعبيد فقد كان، كبقية ملاك العبيد، سياسيا وكان طبيعيا أن يكون من دعاة الانفصال الحقيقيين ومن المدافعين المتحمسين لقضية الجنوب. لقد منعته ظروف قاهرة، ليس من الضروري ذكرها الآن، من الخدمة في الجيش الباسل الذي خاض الحروب الكارثية التي انتهت بسقوط كورنث. وظل يشعر بالحنق الشديد لتقاعسه غير المحمود عن الاشتراك في الحرب، مدفوعا بشوق عارم للإفراج عن طاقاته ولعيش حياة الجندية العريضة ونيل الفرصة لكي يحيى حياة متميزة. كان يشعر بأن تلك الفرصة آتية إليه لا محالة، لأنها تأتي إلى الجميع في وقت الحرب. في الوقت نفسه فعل ما كان بوسعه أن يفعل: لم يفوت أي فرصة، مهما كانت ضئيلة وشديدة التواضع بالنسبة إليه، دون أن يستغلها في إنجاز شيء ما من أجل الجنوب. ولم تثن عزمَه أية مخاطر، مهما كانت كبيرة، في سبيل الإشتراك في المجهود الحربي إذا كان ذلك يتماشى مع شخصيته المدنية، التي يخفق بين جنباتها قلب جندي. كان، بحسن نية ودون الكثير من المؤهلات، يقر بحقيقة جزء على الأقل من مقولة خسيسة بكيفية صريحة مفادها أن كل شيء مباح في الحب وفي الحرب.

ذات مساء، وبينما كان فاركوهار وزوجته يجلسان على مقعد ريفي بالقرب من مدخل منزلهما، اقترب جندي ذو ملابس داكنة على صهوة جواد من البوابة وطلب أن يسقياه شربة ماء. تحركت السيدة فاركوهار بسرعة، شاعرة بسعادة وهي تقوم بخدمة الجندي، بيديها البيضاوين. وبينما كانت مشغولة بجلب الماء اقترب زوجها من الفارس الرث واستفسره، بلهفة، عن أخبار الجبهة.
-يقوم الشماليون بإصلاح خطوط السكك الحديدية.
قال الرّجل. وتابع
-إنهم يستعدون لهجوم آخر. لقد وصلوا إلى جسر أوول كريك وأصلحوه وشيدوا حظيرة على الضفة الشمالية. لقد أصدر القائد أمرا تم نشره في كل مكان، معلنا فيه أن أي مدني يُلقى القبض عليه وهو يحاول تخريب السكك الحديدية أو الجسور أو الأنفاق أو القطارات سيُعدم شنقا دون محاكمة. لقد رأيت الأمر بنفسي.
-كم يبعد جسر أوول كريك؟
سال فاركوهار.
-ثلاثين ميلا، تقريبا.
-هل هناك قوة في الجانب الآخر من النهر؟
-فقط موقع للحراسة على بعد نصف ميل، على السكة الحديدية، وحارس وحيد على هذا الطرف من الجسر.
-لنفترض أن رجلا.. مدنيا.. ولا يعير بالا للإعدام، استطاع أن يراوغ نقطة الحراسة وتمكّن، ربما، من الإجهاز على الحارس..
قال فاركوهار، مبتسما، قبل أن يتابع
-ماذا سيمكنه فعله؟
فكر الجندي.
-كنت هناك قبل شهر ولاحظت أن فيضان الشتاء الماضي قد كدّس كمية كبيرة من الاخشاب الطافية على الرصيف الخشبي الكائن في نهاية الجسر. وهي الآن جافة تماما ويمكن أن تحترق كنشارة الكتان.

كانت السيدة قد جلبت الماء للجندي. شرب ثم شكرها بطريقة رسمية وانحنى لزوجها وقاد جواده بعيدا، مواصلا سيره. بعد ساعة، وبعد حلول الظلام، مر ثانية بالقرب من المزرعة، متجها شمالا في الاتجاه الذي كان قد جاء منه. كان كشافا اتحاديا.

عندما سقط بيتن فاركوهار بكيفية مستقيمة إلى الأسفل عبر الجسر فقد وعيه وبدا كما لو أنه كان ميتا بالفعل. أعاده من هذه الحالة، بعد عصور طويلة كما بدا له، ألم مبرّح متولد من ضغط حاد على رقبته، تلاه شعور بالاختناق. سكرات موت لاذعة وحادّة بدا كأنها كانت تنبعث من رقبته، منطلقة صوب كل نسيج من أنسجة جسده وأطرافه. بدت هذه الآلام وكأنها تومض على طول شبكة عريضة من التشعبات ذات الخطوط واضحة المعالم وتضرب بتواتر سريع لا يصدق.

كانت آلامه مثل تيارات نارية نابضة تسخنه إلى درجات حرارية لا تطاق. بالنسبة إلى رأسه لم يكن واعيا بشيء، سوى شعور بالتخمة، بالاحتقان. كانت هذه الأحاسيس غير مصحوبة بالتفكير. لقد انطمس بالفعل ذلك الجزء من طبيعته العاقلة وبقيت له قوة الشعور فقط. وكان الشعور عذابا محضا. كان واعيا بالحركة، محاطا بسحابة مضيئة، لا يشعر منها بغير قلبها الناري، الذي كان هو نفسه، دون جوهر مادي. تارجح عبر أقواس من التذبذب لا يمكن تصورها، مثل بندول ساعة عملاق. ثم، في الحال وعلى نحو مفاجيء، اندفع النور المحيط به إلى الأعلى، مصحوبا بضوضاء طرطشة عالية. وغمر أذنيه طنين مخيف. وشعر من حوله بالبرد والظلام. استعاد قوة الفكر، فأدرك أن الحبل قد انقطع وأنه قد سقط في النهر. لم يعد ثمة شنق إضافي. لكن حبل المشنقة الملفوف حول رقبته كان يخنقه بالفعل ويمنع الماء من الوصول إلى رئتيه؛ الموت شنقا في أسفل النهر!

بدت له الفكرة سخيفة. فتح عينيه في الظلام ورأى فوقه بصيصا من نور، لكنْ كم كان بعيدا وكم كان صعبا الوصول إليه! كان لا يزال يغرق، لأن النور كان يصغر ويصغر ويصبح أكثر خفوتا، حتى صار مجرد ومضة. ثم بدأ ينمو ويسطع وعرف أنه كان يرتفع نحو السطح. عرف ذلك لأنه صار الآن يشعر بالارتياح الشدي. “أن تُشنق ويتم إغراقك!؟” فكر. هذا ليس سيئا للغاية، لكني لا أود أن تُطلق عليَ النار. لا؛ لن أسمح بإطلاق النار علي؛ هذا ليس عدلا”.
لم يكن واعيا بأنه بذل أي جهد، لكن ألما حادا في معصمه أخبره بأنه كان يحاول تحرير يديه. وأولى الكفاح جل انتباهه، لكنه كان يلاحظ نفسه كما يلاحظ مراقب كسول ألاعيب ساحر مشعوذ، دون اهتمام بالنتائج. يا له من جهد رائع! يا لها من عظمة، يا لها من قوة خارقة! آه، لقد كان ذلك جهدا طيبا! برافو!

سقط الحبل بعيدا. افترقت ذراعاه وطفت نحو الأعلى. يداه تبدوان غائمتين في غبش النور المتزايد. أخذ يراقبهما باهتمام جديد عندما انقضت واحدة منهما، ثم الأخرى، على الأنشوطة الملتفة حول عنقه. انتزعت اليدان الأنشوطة وألقت بها جانبا بقوة. تموجات الأنشوطة تشبه تموجات أفعى الماء. “أعيديها إلى مكانها، أعيديها الى مكانها!”.. ظن أنه صرخ بهذه الكلمات مخاطبا يديه، لأن فك خناق الأنشوطة حول عنقه تلته وخزة مروّعة لم يشهد لها مثيلا في حياته. اعترى رقبتَه وجع فظيع واشتعل دماغه بنار من ألم مبرح. وقلبه، الذي كان يدق دقات خافتة، قفز قفزة عظيمة، محاولا الخروج عنوة من فتحة فمه. غطى الألم جسده بأكمله واستشعرت خلاياه عذاب كرب لا يطاق! لكنّ يديه المتمردتين لم تكترثا بالأمر وراحتا تشقان الماء بقوة، بضربات سريعة، إلى الأسفل، مجبرة إياه على الصعود إلى السطح. شعر برأسه يخرج وأعمى عينيه سطوعُ الشمس. توسع صدره مرتعشا. وبألم شديد لا مزيد عليه، عبّت رئتاه أولَ دفقة من الهواء. زفرها فورا إلى الخارج، في صرخة مدوية!

استعاد السيطرة الآن على كامل حواسه الجسدية. كانت، في الواقع، متحفزة ويقظة بكيفية خارقة للعادة. شيء ما في الاضطراب المروع لنظامه العضوي شحذ حواسه وصقلها، مانحا إياها القدرة على تسجيل أشياء لم يكن يدرك وجودها من قبل. شعر بخفقان تموجات الماء على وجهه وسمع صوت كل مويجة على حدة وهي تضرب وجهه. تطلع إلى الغابة في ضفة الجدول. ورأى الأشجار، فرادى، واحدة واحدة. رأى الأوراق وتعرّقات كل ورقة. رأى حتى الحشرات الزاحفة فوقها: الجراد والذباب ذا الأجسام اللامعة. رأى العناكب الرمادية وهي تنسج شباكها من غُصَين إلى غصين. لاحظ الألوان المنشورية في كل قطرة من قطرات الندى على مليون ورقة من أوراق العشب. سمع طنين البعوض المتراقص فوق دوامات التيار ورفيف “أجنحة” ذبابة التنين وضربات سيقان عناكب الماء، مثل مجاذيف قارب. كل هذه الأصوات استقبلتها أذناه بوضوح موسيقيّ عذب. انزلقت تحت ناظريه سمكة وسمع اندفاع جسدها وهي تشق صفحة المياه. لقد صعد إلى السطح ووجهه أسفل التيار.

في لحظة، بدا له العالم المرئي وكأنه كان يدور حول نفسه ببطء. وشعر بأنه هو بنفسه كان النقطةَ المحورية لذلك الدروان. ورأى الجسر والحصن والجنود الواقفين على الجسر والنقيب والرقيب والجنديين، جلاّديه.

كان جلاّدوه تفاصيل في صورة ظلية قبالة السماء الزرقاء. كانوا يهتفون ويحركون أياديهم، مشيرين إليه. كان النقيب قد سحب مسدسه، لكنه لم يطلق النار. الآخرون لم يكونوا مسلحين. كانت حركاتهم بشعة ومرعبة، بهيئاتهم الضخمة.
وفجأة ،سمع صوت دوي حادّ صاحبه شيء ما ضرب سطح الماء بقوة على بعد بضع بوصات من رأسه ، ناثرا على وجهه رذاذ الماء. وسمع دويا ثانيا ورأى واحدا من الحراس مع بندقيته على كتفه وسحابة خفيفة من الدخان الأزرق تنبعث من الفوهة.

رأى الرجل الموجود في النهر عين الرجل الواقف على الجسر تحدّق في عينيه من خلال فتحة تسديد البندقية. لاحظ أنها كانت عينا رمادية. وتذكر أنه قرأ أن العيون الرمادية أشد وميضا من بقية العيون وأن جميع الرماة الماهرين لهم عيون رمادية. ورغم ذلك، عجز صاحب هذه العيون الرمادية عن إصابة الهدف.

أمسكت دوامة معاكسة بفاركوهار وأدارته نصف دورة. ومن جديد، وجد نفسه ينظر إلى الغابة الموجودة على الضفة المقابلة للحصن. انبعث خلفه الآن صوت واضح وعال ذو رخامة رتيبة ونساب عبر المياه بوضوح مميز اخترق جميع الأصوات الأخرى وأخرسها؛ حتى صفعات الأمواج في أذنيه.

لم يكن فاركوهار جنديا، ورغم ذلك كان قد تردد في حياته على الكثير من المعسكرات ليعرف، بما فيه الكفاية، المغزى الرهيب لذلك النشيد المتأني البطيء الذي شرعت أذناه تسمعان. كان الملازم الواقف على الشاطئ يشارك في أعمال الصباح. كم كان باردا وبلا رحمة! وبأي تجويد رتيب وهاديء كان يصدر ذلك النشيد، منذرا وفارضا الهدوء على الرجال.. أيُّ فواصلَ محسوبة بدقة كان يضع بين تلك الكلمات الرهيبة “سرية، انتباه! تكب سلاح! استعد!.. سدّدْ!.. أطلق النار!”…

غاص فاركوهار. غاص الى أعمق ما يستطيع. هدر الماء في أذنيه كصوت شلال. ورغم ذلك سمع الدوي المكبوت لوابل الرصاص الذي انهمر. وعندما ارتفع، مرة أخرى، إلى السطح، قابلته قطع لامعة من المعدن، مسطحة بطريقة فريدة، تتأرجح هابطة ببطء نحو الأسفل. لامس بعضها وجهه ويديه، ثم سقطت بعيدا، مواصلة هبوطها. علقت إحداها بين ياقته وعنقه؛ كانت ساخنة بكيفية غير مريحة، فانتزعها من مكانها.

وعندما صعد إلى السطح، لاهث الأنفاس، لاحظ أنه أمضى وقتا طويلا تحت الماء. كان من الواضح أنه قد تحرك مسافة ما أسفل التيار، إلى موقع أقربَ إلى السلامة. كان الجنود قد انتهوا تقريبا من إعادة حشو بنادقهم. لمعت مكابس البنادق المعدنية دفعة واحدة في ضوء الشمس عندما سُحبت من المواسير وأُديرت في الهواء وحُشرت في محاجرها. أطلق الحارسان النار ثانية، بطريقة مستقلة ودون تأثير. شاهد الطريد ذلك كله من وراء كتفه. إنه الآن يسبح بقوة مع التيار. كان دماغه يشتعل حيوية، كما ذراعيه وساقيه. كان يفكر بسرعة البرق. “لن يرتكب الضابط خطأه الصارم مرة ثانية، هكذا فكّر. “من السهل تفادي وابل الرصاص سهولة تفادي رصاصة واحدة. على الأرجح إنه أعطى الأوامر بإطلاق النار عشوائيا. ساعدْني يا رب على تفادي كل هذا الرصاص!”..

داهم النهر رشاش مروع ضمن نطاق ياردتين بعيدا عنه، أعقبه صوت متسارع، متضائل، بدا له أن صداه كان يترجع عبر الهواء في تجاه الحصن وينتهي بانفجار هز النهر نفسَه إلى الأعماق!

تقوست فوقه ملاءة صاعدة من المياه وسقطت عليه، أعمته وخنقته! لقد اشترك المدفع في اللعبة إذن. وعندما هز رأسه ليخلصه من ضجة المياه التي تعرضت لقذيفة مدفعية سمع الطلقة التائهة تُصفّر في الهواء فوق رأسه. وفي لحظة كسرت وهشمت فروع الأشجار في الغابة خلفه.
“لن يفعلوا ذلك مرة أخرى”، فكر. “في المرة القادمة سيستخدمون عبوة عنقودية.. يجب أن أتابع المدفع، سيعْلمني الدخان بذلك.. الدوي يصل متأخرا جدا؛ إنه يتلكأ خلف القذيفة. إنه مدفع جيد”.

فجأة، شعر بنفسه يدور وبدور مثل دوامة. واختلط أمام أنظاره الماء، بضفاف النهر بالغابة، بالجسر الذي بات بعيدا الآن، بالحصن، بالرجال؛ وغاب الجميع داخل صورة هلامية مشوشة. لم يعد يرى من الأشياء غبر ألوانها فقط؛ مجرد خطوط لونية أفقية ودائرية. ذلك كل ما كان بوسعه أن يرى. لقد أمسكت به دوامة راحت تبرمه بسرعة دوران واندفاع شديدة إلى الأمام حتى أصابته بالدوار والغثيان. وبعد لحظات، قذفته على الحصى عند سفح الضفة اليسرى للتيار.،الضفة الجنوبية، وراء بقعة بارزة من الأرض أخفته عن عيون أعدائه.

أعاد إليه التوقف المفاجئ لحركته وكشط واحدة من يديه على الحصى وعيه، فبدأ يبكي مسرورا. غرز أصابعه في الرمل وأخذ يحثو قبضات منه على نفسه، مباركا إياها بصوت مسموع. بدت له حبّات الرمل مثل الماس والياقوت والزمرد؛ بل أفضل. لقد تمثلت له شيئا جميلا أمكن لذاكرته أن تسعفه به. كانت أشجار الضفة نباتات حدائقية عملاقة. لاحظ وجود نسق واضح في ترتيبها وعب بأنفه رائحة زهورها. نور وردي غريب أشرق عبر الفراغات الفاصلة بين جذوعها وعزفت الرياح بين فروعها ألحان قيثارات إيوليا.

لم يكن يرغب في إضفاء صفة الكمال على هروبه. كان يرضيه أن يمكث في تلك البقعة الساحرة حتى يعيدوا إلقاء القبض عليه. أيقظه من حلمه أزيز وقعقعة ذخيرة عنقودية بين الأغصان المتدلية فوق رأسه. كان المدفعي الحائر قد أطلق في أثره رشقة وداعية عشوائية. هبّ واقفا على قدميه واندفع صاعدا الضفة المنحدرة وغاص في أعماق الغابة.

واصل المسير طوال ذلك اليوم، مستدلا على وجهته بالشمس. بدت الغابة بلا نهاية؛ لم يكتشف أي قطع في امتدادها الأبدي ولا حتى تجمّعا للحطابين. لم يعرف من قبل أنه كان يعيش في برية لها مثل هذا الاتساع. كان ثمة شيء غريب في هذا الاكتشاف..

وعندما حل الليل ألفى نفسه متعبا، متقرح القدمين وجائعا. لكن التفكير في زوجته وأولاده حثه على مواصلة التقدم. وأخيرا، وجد الطريق الذي قاده إلى ما يسمى الاتجاه الصحيح. كان الطريق واسعا ومستقيما كأحد شوارع المدينة، إلا أنه بدا غير مطروق من قبل. لا توجد هنا حقول تحده ولا مسكن على أي جنب من جنباته، ولا حتى نباح كلب، على الأقل، يشي بوجود بشر ساكنين على جانبيه. جذوع الأشجار السوداء وحدها شكلت جدارا مستقيما على كلا الجانبين، منتهية في الأفق عند نقطة ما، مثل رسم تخطيطي في درس للمنظور. في الأعلى، عندما رفع بصره لينظر من خلال ذلك الصدع الموجود في سقف الغابة، شعّت نجوم كبيرة بدت له غير مألوفة ومتجمعة داخل تشكيلات غريبة. كان متأكدا من أنها كانت مرتبة حسب نظام ما ذي مغزى خبيث وسري. على الجانبين كانت الغابة حبلى بأصوات فريدة، تتخللها، مرة تلو الأخرى، وشوشات وهمسات منطوقة بلسان غير معروف.

كانت رقبته تؤلمه. وعندما رفع يده ليتلمسها وجدها متورمة تورما فظيعا. كان يعرف أنها كانت محاطة بشريط أسود خلفته عليها كدمات الأنشوطة. شعر بعينيه محتقنتين وبأنه لم يعد ممكنا إغلاقهما. كان لسانه متورما من العطش. وأخذ يخفف سخونته بدفعه إلى الأمام من بين أسنانه في الهواء البارد. ما أشد نعومة التربة التي كانت تغطي ذلك السبيل غير المطروق. لم يعد يشعر بالطريق تحت قدميه! لا شك في أنه، رغم معاناته، قد خر نائما أثناء سيره ، لأنه يرى الآن مشهدا آخر، أوربما لأنه قد تعافى للتو من حالة هذيان. إنه يقف الآن على عتبه بوابة منزله. كل شيء كما تركه، مشرق وجميل في نور شمس الصباح الباهر. لا بد أنه قد سار الليل بأكمله. وإذ دفع البوابة وسار فوق الممشى الأبيض العريض، شاهد رفيف ثياب نسائية وزوجته، التي تبدو طازجة ورائقة وحلوة، تهبط من الشرفة لمقابلته. في الجزء السفلي من درجات الشرفة تقف في الانتظار، مع ابتسامة فرح لا يوصف وهيئة لا مثيل لها من الرشاقة والكبرياء. آه، ما أجملها!

يقفز الآن الى الأمام، مادّا ذراعيه. وعندما يوشك على معانقتها يشعر بضربة صاعقة على الجزء الخلفي من عنقه. ضوء أبيض معشي يشتعل من حوله مقرونا بصوت يشبه دوي مدفع. ثم يغرق كل شيء في الظلام والصمت!

كان بيتن فاركوهار ميتا. جسده، مهشم العنق، كان يتأرجح برفق، من جانب إلى جانب، تحت أخشاب جسر “أوول كريك”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *