إعداد: إلياس زهدي
حلقة 9
وردة باراثيلسو
خورخي لويس بورخيس (1899 –1986)
في ورشته، التي شغلت غرفتي القبو، طلب باراثيلسو من ربّه، ربه غير المحدَّد، من أي رب كان، أن يبعث له تلميذا. خيّم المساء. نارُ الموقد الخفيفة رسمت ظلالا عشوائيّة. كان يجد مشقة في إشعال المصباح الحديدي. نسى باراثيلسو، الشارد من التّعب، صَلاته. كان الليلُ قد محا الأنابيق (قارورات المختبر) المغبرة والتنور عندما طرق البابَ. قام الرجل الكابي، صعد الدرج الحلزوني القصير وفتح درفة الباب. دخل رجلٌ مجهولٌ، كان بدوره متعبا جدا. أشار باراثلسو إلى مقعد، جلس الآخر وانتظر. مضت برهة لم يتبادلا فيها كلمةً واحدة.
تكلّم المعلم هو الذي تكلّم. قال بأبهة:
-أذكرُ وجوها من الغرب ووجوها من الشرق، لكنني لا أذكر وجهك.. من أنت؟ وماذا تريد منّي؟
رد الآخر:
-ليس اسمي ما يهمّ. سرت طوال ثلاثة أيام وثلاث ليال كي أدخل منزلك. أريد أن أصبح تلميذك. أحضرتُ لك معي كل ما أملك.
أخرج كيسا وقلبه فوق الطاولة. كانت النقودُ كثيرة وذهبية. فعل ذلك بيده اليمنى. أدار باراثيلسو ظهره كي يشعل المصباح. وحين التفت لاحظَ أنّه يمسكُ باليسرى وردة. أقلقته الوردة. اتّكأ. لمّ أطراف أصابعه وقال:
-تظنّ أنني قادر على تحضير الحجر الذي يحوّل جميع العناصر إلى ذهب ورغم ذلك تقدّم لي ذهبا!.. ليس الذّهب ما أبحث عنه، وإذا كان الذّهبُ هو ما يهمّك فلن تُصبحَ تلميذي بتاتاً.
ردّ الآخر:
-لا يهمني الذهب. وهذه النقود ليست أكثر من جزء من أدلة رغبتي في العمل. أريدُك أن تعلّمني الفن. أريد أن أجوبَ معك الطريق الّذي يُفضي إلى الحجر.
قال باراثيلسو بتمهّل:
-الطريق هو الحجر، نقطة الانطلاق هي الحجر. إذا لم تفهم هذه الكلمات فهذا يعني أنّك لم تبدأ بعد في الفهم. كل خطوة تخطوها هي الهدف.
نظر إليه الآخر بحذر. قال بصوت مختلف:
-لكنْ، هل من هدف؟
ضحك باراثيلسو وقال:
-إن البلهاء الذين يشهّرون بي ينفون ذلك ويلقّونني بالدجال. لا أوافقهم، لكنْ قد أكون مغرورا. أعرف أنّ هناك طريقا.
-أنا مستعد لأن أجوبه معك، حتى ولو اضطُررْنا إلى أنّ نسيَر سنوات. اتركني أعبرُ الصحراء. دعنَي ألمحُ الأرضَ الموعودة ولو من بعيد، حتى لو لم تسمح لي النّجومُ بوطئها.. أريد برهاناً قبل أن أبدأ الطَّريق.
سأل باراثلسو بقلق:
-متى؟
أجاب التلميذ بتصميم حازم:
-الآن، حالا.
كان قد بدأ الحديث باللاتينيّة؛ والآن بالألمانيّة.
رفع الفتى الوردة في الهواء وقال:
-أنت مشهور بأنّك تستطيع إحراق وردة وبعثها من رمادها بفنّك. دعني أُصبح شاهدا على هذه الأعجوبة. هذا ما أطلب منك، ومن ثمَّ أمنحك حياتي كلّها.
قال المعلّم:
-أنت سريع التصديق. لا حاجة إلى التصديق؛ أطلبُ الإيمان.
ألحّ الآخر:
-تماما، لأني لست سريع التصديق، أريد أن أرى بأمّ عيني إفناء الوردة وبعثها.
كان باراثيلسو قد أخذها وراح يلعب بها وهو يتكلّم. قال:
-أنت سريع التصديق، هل تقول إنني قادر على إتلافها؟
أجاب التلميذ:
-ما من أحد لا يستطيعُ إتلافها.
-أنت مخطئ.. أتظنّ أن شيئا يمكن أن يُعاد، بالمصادفة، إلى العدم؟ أتظنّ أن آدمَ الأول في الجنة استطاع أن يخرّب وردة واحدة أو ورقة عشب؟
قال الفتى بعناد:
-لسنا في الجنة.. هنا، تحت القمر، كل شيء فان.
قام باراثيلسو واقفا وقال:
-في أيّ مكان آخر نحن؟ أتظنّ أن لله يستطيع أن يخلق مكانا ليس جنّة ؟ هل تظنّ أن السقوط من الجنّة شيء آخر غير جهلنا بأنّنا في الجنّة؟
قال التلميذ بتحدّ:
-يمكن للوردة أن تحترق.
قال باراثيلسو:
-ما زال في الموقد نارٌ. لو رميت هذه الوردة في الجمر لظننت أنها تلاشت وأن الرمادَ حقيقي.. أقول لك إن الوردة خالدة وإن مظهرها وحده ما يمكن أن يتغيّر. تكفي كلمة واحدة مني حتى تراها من جديد.
قال التلميذ باستغراب:
-كلمة واحدة.. التنور مطفأ والغبار يغطي الأنابيق. ماذا ستفعل كي تُبْعَثَ من جديد؟
نظر إليه باراثيلسو بحزن. كرّر:
-التنور مطفأ والغبار يغطي الأنابيق.. في هذه المرحلة من رحلتي الطويلة أستعينُ بأدوات أخرى.
قال الآخر بمكر وتواضع:
-لا أجرؤ أن أسألك ما هي..
-أتحدّث عمّا استخدم اللهُ لخلق السّماوات والأرض والجنّة الخفيّة، التي نحن فيها وتخفيها عنا الخطيئة الأولى. أتحدث عن الكلمة التي تُعلمنا الكابالا.
قال التلميذ ببرود:
-أسألك نعمة أن تريني اختفاء الوردة وظهورها.. لا يهمّني أن تستخِدم المقاطر أو الكلمة.
فكر باراثيلسو ثم قال:
-لو قمتُ بذلك لقلتَ إن الأمر يتعلق بوهم فرضه سحر عينيك. الأعجوبة لن تمنحك الإيمان الذي تبحث عنه: دعك من الوردة إذن.
نظر إليه الشاب بريبة. رفع المعلم صوته وقال:
-ثم من أنت لتدخل منزل معلّم وتطلب منه معجزة؟ ماذا فعلتَ لتستحق مثل هذه الامتياز؟
أجاب الآخر، مرتعشا:
-أعر أنّني لم أفعل شيئا. أطلب منك، باسم السّنوات الكثيرة التي سأدرس فيها في ظلك، أن تدعني أرى الرماد، ومن ثمّ الوردة. لن أطلب منك شياً آخر. سأؤمن بما تراه عيناي.
وبفظاظة، أخذ الوردة الحمراء، التي تركها باراثيلسو فوق المكتب، وقذف بها إلى اللهب.. ضاع اللون ولم يبقَ إلا بعضُ الرّماد. انتظر برهةً لانهائيّة الكلمات والأعجوبةَ.
لم يُبد باراثيلسو ردة فعل. قال بوضوح غريب:
-جميع الأطباء والصيادلة يؤكدون أنني دجّال. ربّما كانوا على حق.. ها هو الرّماد الذي كان الوردة هناك ولن يعود ويصير وردة.
شعر الفتى بالخجل. كان باراثيلسو ثرثارا أو مجرّدَ مدّعٍ، وهو دخيلٌ اقتحم بابه ثم راح يجبره الآن على الاعتراف بأن فنونه السحرية الشّهيرة باطلة.
انحنى وقال له:
-تصرّفتُ بطريقة لا تُغتفر. ينقصني الإيمان الذي يطلب الرّب من المؤمنين به. دعني أواصل رؤية الرماد. سأعود عندما أصبح أكثر قوة وسأصبحُ تلميذك، وفي نهاية الطريق سأرى الوردة.
كان يتحدث بحماسة حقيقية، لكن هذه الحماسة كانت الورعَ الذي يلهمه له المعلم العجوز، الوقور والمنتهك وذائع الصيت، وبالتالي، الأجوف جدا. من كان جوهانس جريسباخ كي يكشف، بيد منهكة، أنّه ما من أحد خلف القناع؟
كان ترك النقود الذّهبية سيعدّ صدقة. عاد وأخذها. رافقه باراثيلسو حتى أسفل الدرج وقال له إنه مرحَّب به دائما في هذا المنزل. كلاهما كان يعرف أنهما لن يلتقيا مطلقاً.
بقي باراثيلسو وحيدا، قبل أن يطفئ المصباح ويجلس على كرسيه المُنهَك. سكب حفنة الرماد الخفيف في تجويف يده، وبصوت خفيض قال كلمة فانبعثت الوردة.