مؤشرات عديدة تؤكد أن العالم سيستمر ضمن دائرة التوتر في العلاقات بين الأطراف الفاعلة في السياسة الدولية، على خلفية الصراع الجيوستراتيجي القوي الدائر حول مناطق النفوذ و المصالح الاقتصادية الكبرى.

ومن نتائج ذلك، استمرار اللااستقرار في الأسواق العالمية للطاقة والمواد الغذائية، و تخلخل التوازنات على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي في عدد من المناطق بسبب مشاكل في التزود بالمواد الطاقية و ارتفاع أثمانها، و تراجع إنتاج مواد غذائية أساسية كالحبوب من أثر الجفاف و التغيرات المناخية غير المسبوقة في عدد من البلدان.

كما أن الأفق سيظل غير واضح المعالم بسبب تظافر عوامل متنوعة، منها: ضغط التضخم و احتمال خروجه عن نطاق السيطرة رغم محاولات الأبناك المركزية ضبط الأمور عبر رفع نسب الفائدة المرجعية؛ و تراجع النمو الاقتصادي و ارتفاع نسبة البطالة؛ و تحولات سوق الشغل بفعل تسارع التطور التكنولوجي الذي يقوي حضور الذكاء الصناعي على حساب اليد العاملة، وظهور مهن جديدة تتطلب خبرات غير متوفرة لدى فئات كثيرة تبحث عن العمل.

ويبقى الخطر الأكبر على التوازن الاجتماعي عبر العالم، هو استمرار قوى الرأسمال في تكريس ليبرالية عنيفة غير اجتماعية و غير محافظة على البيئة، لا تخضع لمنطق “اليد الخفية” التي بشر بها الاقتصادي أدام سميث لضمان توازن الأسواق، و لا تتقيد بتدابير الحكامة التي تحترم قواعد المنافسة. و لاشك أن هذا المسار سيبقي الواقع بعيدا عن الاستقرار، إلى حين إحلال نظام عالمي جديد بقواعد متفق عليها، يتيح للقوى الجديدة مكانا في لعبة الأمم، و يحفظ للأطراف الدولية القوية حدا أدنى من مصالحها القائمة.

وبالنظر إلى ارتباك الوضع الدولي، يظل الاحتمال قائما بأن تسوء الأمور في أية لحظة، و تختل التوازنات التي تتحكم في الاقتصاد و النظام المالي العالمي. لذلك، من المهم جدا أن ننتبه إلى تتبع أثر ما يجري في الساحة الدولية على بلادنا، دولة و مجتمعنا، و أن نضع نصب أعيننا كل السيناريوهات و الاحتمالات الممكنة، بمنطق اليقظة و الاستباقية لكي نحمي المشروع الوطني ضد كل المخاطر.

في رأيي، لا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا عبر ترقية النقاش العمومي، السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي، إلى مستوى استراتيجي يستحضر جميع الأبعاد عند تناول كل قضية و إشكالية، بحرص شديد على أن تظل الجبهة الداخلية موحدة حول ثوابت الأمة المغربية، في إطار شراكة حقيقية في صياغة السياسات العمومية لتعكس روح التضامن الفعلي الذي تستفيد منه كل الفئات المجتمعية.

في هذا الباب، على الحكومة و الأحزاب مسؤولية الإنصات لكل الأصوات المنبعثة من المجتمع، سواء المعبر عنها بتلقائية الأفراد في مواقع التواصل الاجتماعي و وسائل الإعلام، أو بشكل منظم في إطار حركات اجتماعية ومدنية، و التفاعل معها بإيجابية و حكمة تمكن من تفكيك ألغام المشاكل الضاغطة في الواقع الوطني.

ولأن الواقع الاجتماعي و الاقتصادي قد يعرف مشاكل جديدة، دون سابق إنذار، يتعين الابتعاد عن تمجيد الذات و تزكية “اجتهادات” هذا الطرف أو ذاك، كما لو أنها منتهى الكمال و تمام النجاعة في مواجهة الصعاب المطروحة، و الالتزام بخطاب سياسي متزن، و تواصل صادق يحترم ذكاء الناس و يقدر روح المسؤولية لديهم، على اعتبار أنهم يعيشون المشاكل في الواقع بشكل مباشر، و يستوعبون جيدا صعوبة التحديات و ثقل المخاطر، و يدركون الهوامش الممكنة و المسارات غير المتاحة. لذلك، على الهيئات التي تمارس الوساطة السياسية و تأطير المواطنين، تفادي خطاب الاستعلاء و تسفيه انتقادات الناس و لو كانت قاسية، و عدم تحميلها ما لا تحمله بغرض تشويهها، لأنه بالتأكيد لا أحد يسعى إلى التشويش من أجل التشويش، كل ما في الحكاية أن المواطنين يبحثون عن إيصال أصواتهم و نقل معاناتهم مع صعوبات الحياة و غلاء المعيشة، للفاعلين السياسيين و الحكوميين لعلهم يأخذونها بعين الاعتبار في صياغة البرامج و في تحديد حجم الميزانيات و توزيع الاستثمارات العمومية التي يتم إقرارها، و ضبط استهداف المستحقين بحسب أولويات الصالح العام و التشخيص الموضوعي للانتظارات بعيدا عن المطالب الفئوية أو الأولويات الحزبية الضيقة.

في هذا السياق، إذا كنا نتفق على أن الواقع معقد و إرث المشاكل ثقيل و الإكراهات صعبة، و بعض المشاكل عصية على الحل، إلا أنه لا أحد سيتفهم ابتعاد الفاعل العمومي و الحزبي عن نهج الإنصات للناس، و رفض توسيع دائرة الاستشارة مع فعاليات المجتمع، و الامتعاض من الأراء المخالفة وجهات النظر المعارضة، لأن تلك المبادئ هي جزء من الوعي السياسي المجتمعي خلال العشرين سنة الماضية، و ليس مستحيلا على ذكائنا الجماعي استمرار الالتزام بها و الوفاء لروحها.

لذلك، يجب أن نبادر إلى كل ما يقوي الثقة بين المواطنين و المؤسسات، و يرسخ الحل الاستراتيجي الوحيد لمواجهة الأزمة القائمة و المشاكل القادمة، الذي يتأسس على أساسيات لا جدال فيها : الوحدة الوطنية ؛ تقوية مقومات السيادة و الأمن القومي ؛ تعزيز حكامة الشأن العام؛ محاربة الفساد و المتورطين فيه في كل القطاعات و في الجماعات الترابية؛ تجويد السياسات العمومية و تنويع التدابير الرامية إلى التخفيف عن الفئات الاجتماعية المتوسطة و الضعيفة أثر الغلاء الفاحش و ارتفاع الأسعار، خاصة ذلك الذي لا تبرره عوامل موضوعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *