إعداد: إلياس زهدي

حلقة 8
العودة إلى بابل -سكوت فتزجيرالد (1896 -1940)

2/2

استيقظ على نهار خريفي جميل، ذي طقس يصلح لكرة القدم. مضت كآبة يوم أمس وأحبّ الناس في الشوارع. وعند الظهر، جلس مقابل هونوريا في “لو كراند فاتل”، المطعم الوحيد الذي لا يُذكّره بوجبات العشاء الزاخرة بالشمبانيا أو وجبات الغداء التي كانت تبدأ في الساعة الثانية بعد الظهر وتنتهي عند وقت الشفق الضبابي المبهم:
-الآن ما رأيكِ في الخضر؟ ألا ينبغي أن تتناولي بعض الخضر؟
-طيب، نعم.
-يوجد السبانخ والقنبيط والجزر والفاصوليا.
-أحب القنبيط.
-هل تودّين تناول نوعين من الخضر؟
-أتناول عادة نوعا واحدا في الغداء.

وتظاهر النادل بأنه مولع بالأطفال جدا، فقال بالفرنسية:
-ما ألطف هذه الصغيرة! إنها تتكلم تماما مثل فرنسية!
-وماذا عن الحلوى.. هل ننتظر ونرى؟

اختفى النادل. ونظرت هونوريا إلى أبيها وهي تتوقع شيئا.
-ماذا سنفعل؟
-أولا، سنذهب إلى دكان اللّعَب في شارع سانت هونوري ونشتري أي شيء تحبين. ثم نذهب إلى المسرح الفكاهي.
قالت مرددة:
-أميل إلى المسرح الفكاهي، بخلاف محلات اللّعَب.
-ولم لا؟..
-حسناً، لقد جلبتَ لي هذه الدمية (وكانت تحملها معها) ولدي كثير من الأشياء. ولم نعُد أغنياء كما كنا، أليس كذلك؟
-لم نكن أبدا أغنياء. ولكنْ اليوم لك أن تطلبي ما تشائين.
-طيب.
ووافقت بشيء من التسليم.

عندما كانت معها أمها ومربية فرنسية كان يميل إلى شيء من التشدّد، أما الآن فهو أوسع بالا، محاولا تسامحا جديدا؛ فعليه أن يقوم بدور الوالدَين معا ولا يغلق في وجهها باب التواصل. وقال بجدّية:
-أريد أن أتعرف عليك. أولا، دعيني أقدّم نفسي.. اسمي تشارلس جي ويلز، من براغ.
قالت ضاحكة:
-أوه، بابا.
وأصرَّ:
-مَن أنتِ، من فضلك؟
وقبلت تمثيل الدور حالاً:
-هونوريا ويلز، شارع البلاتين، باريس.
-متزوجة أم عزباء؟
-لا، لست متزوجة، أنا عزباء.
فأشار إلى الدمية:
-لكني أرى أن لك طفلة يا سيدتي!؟
ولم ترغب في نكراها، فضمّتها إلى قلبها وفكّرت بسرعة:
-كنتُ متزوجة، ولكني لم أعد كذلك الآن، فقد مات زوجي.
واصل بسرعة:
-واسم الطفلة؟
-سيمون.. سمّيتها على اسم صديقتي المفضلة في المدرسة.
-أنا مسرور لأنك متفوقة في الدراسة.
قالت بافتخار:
-ترتيبي الثالثة هذا الشهر. أما ألسي (وهذا اسم بنت خالتها) فترتيبها الثامنة عشرة فقط، وريتشارد في آخر الترتيب تقريبا.
-أنتِ تحبين ريتشارد وألسي، أليس كذلك؟
-أوه، نعم، أحب ريتشارد جدا، وأحبها جيدا.
وسأل بحذر وبصورة عابرة:
-وخالتك ماريون، وخالك لنكولن.. أيهما تحبين أكثر؟
-أوه، أحسب الخال لنكولن.

أخذ يشعر بحضورها بصورة متزايدة. عندما دخلا المطعم، تبعتهما همهة: “محبوبة”، والآن شدّت انتباه الناس في الطاولة المجارة، وهم يحدّقون فيها كما لو كانت شيئاً ليس أكثر أدراكا من وردة. سألتْ، فجأة:
-لماذا لا أعيش معك؟.. لأن أمّي ميتة.
-يجب أن تبقي هنا وتتعلمي الفرنسية أكثر. كنتُسأصير أبا قاسيا لو كان عليّ أن أعتني بك جيدا.
-لم أعُد أحتاج في الواقع إلى كثير من العناية، فأنا أفعل كل شيء بنفسي.
وفيما هما خارجان من المطعم، حياه رجل وامرأة بصورة غير متوقعة:
-حسناً، هذا ويلز القديم.
-مرحبا، لورين… دونك.
شبحان خرجا من الماضي: دونكان شيفر، صديق من أيام الكلية، ولورين كوارلز، سيدة شقراء شاحبة في الثلاثين من عمرها؛ واحدة من المجموعة التي ساعدته وزوجتَه على تحويل الشهور إلى أيام، في زمن الرفاهية والتبذير قبل ثلاث سنوات. وفي إجابة عن سؤال قالت له لورين: ”زوجي لم يستطع المجئ هذا العام، فنحن فقراء جدا. ولهذا فقد أعطاني مئتي دولار شهريا وقال لي إنني أستطيع أن أفعل بهما الأسوأ… هل هذه ابنتك الصغيرة؟
وسأل دونكان:
-هل تود الرجوع ومجالستنا قليلا؟
-لا أستطيع ذلك.
وشعر بارتياح لاعتذاره. وكدأبه، أحسّ بجاذبية لورين الشهوانية المثيرة. فسألتْ:
-حسناً، وماذا عن العشاء؟
-لدي التزام. أعطيني عنوانكما وسأتصل بكما.
قالت كمَن يُصدر حكما:
-شارلي، أظن أنك صاحٍ. أظن بأمانة أنه صاح، دونك، اقرصْه لتعرف أنه صاحٍ.
قال دونكان بتشكك:
-ما هو عنوانك؟
-لم أستقر بعد، من الأفضل أن أتصل بك. نحن ذاهبان لمشاهدة المسرح الفكاهي في الأمباير.
قالت لورين:
-هناك، هذا ما أريد أن افعله، أريد أن أرى بعض المهرّجين والبهلوانيين والمشعوذين. ذلك تماما ما سأفعله، يا دونك.
قال شارلي:
-سنقضي بعض الأشغال أولا، ربما سنراكما هناك.
-حسناً، أيها المتكبر… وداعا، أيتها الصغيرة الجميلة.
أجابت هونوريا بلطف:
-وداعاً.

وكيفما كان الحال، فقد كان لقاء غير مرغوب فيه. أحبّاه لأنه كان فاعلا، لأنه كان جدّيا. كانا يريدان رؤيته لأنه كان أقوى منهما، لأنهما أرادا أن يستمدا الدعم من قوته.

وفي الأمباير، رفضت هونوريا الجلوس على معطف أبيها المطوي. كانت قد أصبحت شخصا مستقلا، وكان شارلي قد تملكته الرغبة في أن يضع فيها شيئا قليلا من نفسه قبل أن تتبلور بصورة كاملة. ولكنْ من الميؤوس أن يحاول معرفتها في وقت قصير مثل هذا.
وفي فترة الاستراحة، التقيا بدونكان ولورين في الصالة، حيث كانت الفرقة الموسيقية تعزف ألحانها.
-نتناول شراباً؟
-طيب ولكن ليس في الحانة. سنأخذ طاولة.
-الأب المثالي.
كان شارلي يستمع إلى لورين وهو شارد الذهن، فقد كان يراقب عيني هونوريا، اللتين تركتا طاولتهم، وتتبعهما بلهفة حزينة في جولتهما في الغرفة، وهو يتساءل عمّا رأتا. والتقت نظراتهما فابتسمتْ له. وقالت:
-أحببتُ ذلك العصير.
-ماذا كانت تقول؟ ما الذي كانت تتوقع؟

وهما ذاهبان إلى البيت بسيارة الأجرة، أدناها منه حتى استراح رأسها على صدره:
-عزيزتي، هل تفكرين في أمّك؟
-نعم، أحيانا.
-لا أريدك أن تنسيها. هل لديك صورة لها؟
-نعم، أظن ذلك، وعلى أية حال، فخالتي ماريون عندها صورة لها. لماذا تريدني ألا أنساها؟
-لأنها كانت تحبكِ جداً.
-وأنا كنت أحبها كذلك.
وظلا صامتين للحظة. وفجأة قالت:
-بابا، أريد أن آتي وأعيش معك.
وقفز قلبه، فقد أراد أن تسير الأمور بهذه الكيفية:
-ألست سعيدة؟
-بلى، لكني أحبك أكثر من أي شخص آخر. وأنتَ تحبني أكثر من أي شخص بعد وفاة أمي، أليس كذلك.
-طبعاً، ولكني لن أظل المفضل لديك، يا عزيزتي. ستكبرين وتلتقين بشخص في مثل عمرك وستتزوجينه وستنسين أنه كان لديك أب يوما ما.
وافقت بهدوء:
-نعم، هذا صحيح.

لم يدخل المنزل، فهو سيعود الساعة التاسعة وأراد أن يحتفظ بنفسه جديا من أجل الأشياء التي يجب أن يقولها:
-عندما تكونين في أمان في الداخل، أطلي عليّ من ذلك الشباك.
-طيب، مع السلامة، بابا، بابا، بابا، بابا.
وانتظر في الشارع المظلم حتى ظهرت، دافئة ولامعة في الشباك العلوي وقبّلت أصابعها وبسطتها للّيل.

كانوا في انتظاره. جلست ماريون خلف مائدة القهوة في بذلة العشاء السوداء الوقورة التي توحي بالحداد بصورة باهتة. وكان لنكولن يمشي ذهابا وإيابا بحيويةِ مَن كان يتكلم. وكانا متلهفين، مثله، للدخول في الموضوع. ولهذا افتتح الحديث في الحال:
-أفترض أنكما تعرفان لماذا أريد أن أراكما، لماذا أتيت إلى باريس في الحقيقة.
أخذت ماريون تداعب النجوم الصغيرة السوداء في قلادتها وقطّبت جبينها. واصل قائلا:
-أنا أتوق إلى أن يكون لي بيت ومتلهف كثيرا لتصبح هونوريا فيه. وأنا مقدّر لكما أنكما آويتماها من أجل أمّها، ولكن الأمور تغيّرت الآن.
وتردّد ثم استأنف الكلام بقوة أكبر:
-تغيّرت أموري بصورة جذرية وأرجوكما أن تعيدا النظر في الموضوع. من العبث أن أنكر أنني قبل ثلاث سنوات، كنتُ أسيء التصرف.
نظرت إليه ماريون بعينين حادتين. تابع:
-ولكنّ كل ذلك قد انتهى، كما أخبرتكما، فأنا منذ ما يربو على سنة لا أتناول أكثر من مشورب واحد في اليوم وآخذُ ذلك المشروب عمدا لكي لا تصبح فكرة الكحول أكبر من اللازم في خيالي. هل تفهمان الفكرة؟
قالت ماريون بإيجاز:
-لا.
-إنه معيق التزمتُ به. فهو يحتفظ بالمسألة في توازن.
قال لنكولن:
-أفهمك. فأنت لا تريد أن تعترف بجاذبيته لك.
-تقريبا. أحيانا، أنسى أنني لم أتناوله ولكني أحاول أن أتناوله. وكيفما كان الحال، فأنا ليس بوسعي أن أشرب وأنا في موقعي الحالي. والناس الذين أمثِّلهم أكثر من راضين بما فعلت، وسأجلب أختي من مدينة بيرلنغتون لتدبير منزلي، وأرغب بشدة في وجود هونوريا كذلك. وتعرفان أنه حتى عندما كنتُ وأمَّها على غير وفاق، لم نَدعْ أبداً أي شيء مما يحدث يمسّ هونوريا. أعرف أنها مولعة بي وأعرف أنني قادر على العناية بها و… حسناً، هذا ما هناك. كيف تشعران حيال الموضوع؟
كان يعرف أنه سيتلقّى النقد الآن. سيدوم الأمر ساعة أو ساعتين وسيكون صعبا. ولكنه إذا استطاع أن يخفف امتعاضه الذي لا مناص منه، من موقفهما من المذنب التائب، فقد يربح قضيته في نهاية المطاف. وقال في نفسه “احتفظْ بهدوئك. فأنت لا تريد أن تحصل على البراءة، أنت تريد هونوريا”.

تكلّم لونكولن أولا:
-لقد ناقشنا الموضوع عدة مرات منذ أن وصلتنا رسالتك الشهر الماضي. نجد أنفسنا سعيدَين بوجود هونوريا معنا هنا، فهي طفلة صغيرة عزيزة، ونحن مسروران لتمكننا من مساعدتها، ولكن ذلك طبعاً ليس هو الموضوع…
قاطعت ماريون كلامه فجأة وسألت:
-إلى متى ستبقى صاحياً يا شارلي؟
-آمل ، دائما.
-كيف يستطيع أي إنسان أن يثق بذلك؟
تعرفين أنني لم أشرب بكثرة إلا بعد أن تخليتُ عن عملي وأتيتُ إلى هنا وليس لي ما أفعله، ثم أخذنا أنا وهيلين نخرج مع…
-من فضلك، لا تُدخِل هيلين في الموضوع. فأنا لا أحتمل سماعك وأنت تتكلم عنها بمثل ذلك.
حدّق فيها بعبوس. لم يكن متأكّدا من مدى تعلّق الأختين ببعضهما البعض في الحياة.
-إن إسرافي في الشرب دام سنة ونصف فقط، من وقت وصولنا حتى انهياري.
-كان ذلك زمناً كافياً.
أقرَّ بذلك:
-كان ذلك زمنا كافيا.
قالت:
-إن واجبي هو تجاه هيلين بصورة كاملة. أحاول أن أفكِّر في ما تريدني أن أفعل. بصراحة، منذ تلك الليلة التي وقع فيها ذلك الشيء الفظيع، لم تعد أنتَ موجوداً بالنسبة إليّ. وأنا لا أستطيع التخلص من ذلك، فقد كانت أختي.
-نعم.
-عندما كانت تحتضر، رجتني أن أعتني بهونوريا. ولو لم تكن في مصحّة آنذاك، لساعد ذلك.
لم يكن لديه جواب.
-لا أنسى في حياتي أبدا ذلك الصباح عندما طرقت هيلين بابي، وهي مبلَّلة حتى جلدها وترتجف وقالت لي إنك أوصدت الباب في وجهها.
قبض شارلي على جانبي الكرسي. فذلك أصعب مما كان يتوقّع. أراد أن ينطلق في جدال وشرح، ولكنه اكتفى بالقول:
-الليلة التي أوصدت الباب في وجهها…
ثم قاطعته ماريون:
-لا أظن أنني قادرة على مناقشة ذلك مرة أخرى.
بعد لحظة صمت، قال لنكولن:
-لقد ابتعدنا عن الموضوع.. أنت تريد ماريون أن تتنازل عن الوصاية القانونية وتعطيك هونوريا. وأظن أن القضية الأساسية بالنسبة إليها هي ما إذا كانت لديها الثقة فيك أم لا.
قال شارلي:
-لا ألوم ماريون، ولكني أظن أنها تستطيع أن تثق بي ثقة كاملة. فسجلّي جيد خلال السنوات الثلاث الماضية. وطبعا، طبقا للطبيعة البشرية، فقد أقع في الخطيئة في أي وقت. ولكننا إذا انتظرنا طويلاً فإنني سأفقد طفولة هونوريا وفرصتي في تكوين بيت عائلي.
هزَّ رأسه:
إنني سأفقدها بكل بساطة، ألا ترى ذلك؟
قال لنكولن:
-نعم، أفهم ذلك.
سألت ماريون:
-ولماذا لم تفكّر في ذلك من قبل؟
-أفترض أنني كنتُ أفكر في ذلك بين الحين والآخر، ولكن علاقتنا أنا وهيلين كانت سيئة. عندما وافقتُ على الوصاية، كنتُ ممدٌَداً على ظهري في مصحة وقد لفظني السوق. أعرف أنني تصرفتُ بصورة سيئة. وفكرتُ أنه إذا كان ذلك سيجلب السلام إلى روح هيلين، فإنني سأوافق على أي شيء. ولكن الأمر مختلف الآن، فأنا في وظيفة جيدة وأتصرف بصورة جيدة، اللعنة، في ما يخص…
قالت ماريون:
-رجاء لا تسبّ أمامي.
أجفل ونظر إليها، ففي كل ملحوظة منها، أخذ كرهها يظهر أكثر فأكثر. وقد جمعت كل خوفها من الحياة في كرة واحدة وقذفتها نحوه. من المحتمل أن يكون لتأنيبها التافه نتيجة بعض المشاكل مع الطاهية قبل بضع ساعات. وأمسى شارلي خائفا بصورة متزايدة من ترك هونوريا في هذا الجو المشحون بالكراهية ضده، فعاجلا أو آجلا، ستخرج هذه الكراهية في كلمة هنا وفي هزة رأس هناك، وبعض عدم الثقة فيه سينغرس في نفس هونوريا بصورة نهائية. ولكنه سيطر على انفعاله لئلا يبدو على وجهه وحصره في أعماقه؛ لقد ربح نقطة، لأن لنكولن أدرك سخافة تصريح ماريون وسألها، بطريقة لبقة، منذ متى أصبحت تعترض على استعمال كلمة “اللعنة”.
وقال شارلي:
-وثمة شيء آخر، وهو أنني قادر الآن على توفير منفعة أخرى لها، فأنا سآخذ معي إلى براغ مربية فرنسية وحصلت على عقد كراء شقة جديدة…
وكفّ عن الكلام، إذ أدرك أنه أخطأ. فليس من المتوقع أن يتقبَّلا برباطة جأش حقيقة أن دخله أصبح مرة أخرى ضعف مجموع دخليهما معاً.
قالت ماريون:
-أفترض أنك تستطيع أن توفر لها الرفاهية أكثر مما نستطيع. عندما كنتَ ترمي بالنقود وتبذرها، كنا نعيش ونحن نحسب في ما سنصرف كل عشرة فرنكات… أفترض أنك بدأتَ تفعل ذلك مرة أخرى.

وساد صمت طويل. وشعر الجميع بأعصابهم متوترة. ولأول مرة منذ سنة، رغب شارلي في مشروب. وصار متأكدا الآن من أن لنكولن بيترز يريده أن يأخذ ابنته.
وارتعدت ماريون فجأة، فهي ترى أن أقدام شارلي مستقرة على الأرض الآن، لكن شعورها الأمومي اعترف برغبته الطبيعية؛ ولكنها عاشت مدة طويلة مع هذا التعصُّب -تعصّب يقوم على الشك في سعادة أختها، الذي تحوّل بصدمة ليلة مرعبة إلى كره له. فقد حدث كل ذلك في نقطة من حياتها، إذ يفرض جعل التذمّر من المرض والظروف الصعبة أن تؤمن بوجود نذالة ملموسة وخسة حقيقية. وفجأة، صرخت قائلة:
-لا أسيطر على مشاعري. لا أعرف مقدار مسؤوليتك في موت هيلين. لا أعرف. إنه شيء يجب عليك تسويته مع ضميرك.
واخترق كينونته ما يشبه تيار كهربائي من الغم وسرى فيه، وللحظة كاد يقوم واقفا، وهو يخنق صوتا تردَّد في حنجرته. وأمسك نفسه في نهاية المطاف. قال لنكولن، غير مرتاح:
-انتظر. لم أفكّر قط في أنك مسؤول عن ذلك.
وقال شارلي بفتور:
-هيلين توفيت بسبب مشكلة في القلب.
-نعم، بسبب مشكلة في القلب…
قالت ماريون، وكأن للعبارة معنى آخر بالنسبة إليها. وفي الهدوء الذي أعقب انفجارها، رأته كما هو وعرفت أنه استطاع، بكيفية ما، التحكم في الموقف. ورمقت زوجها فلم تجد فيه أية مساندة لها. وبصورة مفاجئة، تخلّت عن الموضوع، وكأنه لا أهمية له. وأسرعت خارجة من الغرفة. وبعد لحظة قال لنكولن:
-لقد كان يوما صعبا بالنسبة إليها. أنت تعرف قوة مشاعرها…
رد بصوت تطبعه نغمة اعتذار:
-طبعاً.
-من الأحسن بي أن أذهب وأرى كيف هي.
-أنا ذاهب.

كان ما يزال يرتجف عندما وصل إلى الشارع. ولكن مشيه في شارع بونابارت حتى ضفة النهر رفع معنوياته. وعندما عبر نهر السين، المتجدد، المتألق تحت أضواء الرصيف، شعر ببعض الابتهاج. ولكنْ في غرفته لم يستطِع النوم. فقد هيمنت عليه صورة هيلين. هيلين التي أحبها حتى أخذا في إفساد حب أحدهما الآخر بصورة غير معقولة، حتى قُطِّع ذلك الحب إرَبا. في تلك الليلة الرهيبة من فبراير، التي تتذكرها ماريون بكل وضوح، وقعت مشادة بينهما واستمرت ساعات. ثم كانت هناك ثورة غضب في مطعم فلوريدا. ثم حاول أن يأخذها إلى البيت. ثم قبّلت شابا على المائدة، وبعد ذلك قالت ما قالت بهستيريا. وعندما وصل إلى البيت وحيدا بعد ساعة، أدار المفتاح في ثورة غضب. وكيف يدري أنها ستصل بعد ساعة وحدها. وكانت هناك عاصفة ثلجية تجولت خلالها وهي ترتدي نعلين خفيفين. وكانت مرتبكة أكثر من اللازم لتعثر على سيارة أجرة. والنتيجة أنها نجت من الإصابة بالتدرّن الرئوي بأعجوبة وكل رعب الانتظار، ثم ”التصالح” بينهما، لكنّ ذلك كان بداية النهاية. وما رأته ماريون بعينيها وتصورته في مخيلتها ما هو إلا واحدة من مشادات عديدة من عذاب أختها ولم تنسَه.
وتذكُّر تلك الأحداث مرة أخرى جعل هيلين أقرب إليه. وفي الضوء الخافت الأبيض الذي تسلَّل إليه وهو نصف نائم قبيل الصبح، ألفى نفسه يتحدّث إليها مرة ثانية. وقالت له إنه كان مصيبا تماما بشأن هونوريا، وهي تريد أن تكون هونوريا معه. وقالت إنها مسرورة لأنه في حال جيدة وأنه يتحسن. وقالت كثيرا من الأمور الأخرى، أشياء ودية جدا. ولكنها كانت في أرجوحة وهي ترتدي ثوبا أبيض وتتأرجح أسرع وأسرع طوال الوقت، ولهذالم يستطع سماع كل ما قالت بوضوح.

استيقظ وهو يشعر بسعادة. فباب العالم مفتوح أمامه من جديد. فقد وضع الخطط والتصورات والمشاهد المسقبلية لهونوريا ولنفسه. ولكنه شعر بحزن فجأة، لأنه تذكّر جميع تلك الخطط التي وضعها هو وهيلين. لم تكُن قد خططت لتموت. كان الحاضر هو الشيء، عملٌ نقوم به وشخصٌ نحبه. ولكن لا لنحبه أكثر من اللازم، فهو يعرف الجرح الذي يمكن لوالد أن يسبّب لابنته أو أم لابنها، من خلال التعلق بهما بشدة: فبعد ذلك عندما يخرج الطفل إلى العالم، سيبحث في زوجه، شريكا له المحبة نفسُها والرقة العمياء، ومن المحتمل أن يفشل في العثور عليها، وآنذاك سينقلب ضدّ الحب والحياة.

كان يوما مشرقا ساطعا آخر. اتصل هاتفيا بلنكولن بيترز في البنك الذي يعمل فيه وسأله إذا كان في وسعه أن يتأكد من اصطحاب هونوريا معه عندما يغادر إلى براغ. ووافق لنكولن على أنه لا يوجد سببٌ للتأخير. شيءٌ واحد، وثيقة الوصاية القانونية، تريد ماريون الاحتفاظ بها لوقت أطول. لقد كانت مستاءة من القضية برمتها، ومن المفيد ترطيب الأشياء بجعلها تشعر بأنها لا تزال تسيطر على الوضع سنة أخرى. وافق شارلي على ذلك، لأنه يريد الملموس فقط، الطفلة.
ثم هناك مسألة المربية. جلس شارلي في وكالة تشغيل مظلمة وتكلّم مع سيدة غاضبة تدعى بيارنيز وإلى قروية غليظة من منطقة بريتاني ولم تثبت على أية واحدة منهما. هناك أخريات سيراهن غدا.
تناول طعام الغداء مع لنكولن بيترز في مطعم كريفون وحاول أن يخفّف فرحته. وقال لنكولن:
-ليس هنالك مثل طفلك ولكنك تتفهم شعور ماريون كذلك.
قال شارلي:
-لقد نسيَتِ المشقة التي عملتُ بها خلال سبع سنوات هناك. إنها تتذكر ليلة واحدة فقط.
وتردد لنكولن:
-هناك شيء آخر.. عندما كنتَ وهيلين تجوبان أوربا وتبذِّران النقود، كنا نعيش على الكفاف. ولم أنل شيئا من الرخاء الاقتصادي، لأنني لم أسعَ إلى الحصول على شيء سوى التأمين. وأظن أن ماريون شعرت بأن ثمة نوعا من الظلم في ذلك، فأنت لم تكن تبذل غاية الجهد وأصبحت أغنى وأغنى.
قال شارل:
-كنتُ أعمل بالسرعة المتاحة لي.
-نعم، ولكن الكثير من ذلك المال ظلّ في أيدي المتصيدين وعازفي السكسوفون ورؤساء النُّدل.. حسنا، والجزء الأكبر من المال قد انقضى الآن. قلتُ ذلك لأشرح لك شعور ماريون حول سنوات الجنون تلك. إذا أتيت في السادسة هذا المساء قبل أن تمسي ماريون متعبة، سننهي التفاصيل في الحال.
وعندما عاد شارلي إلى فندقه، وجد رسالة مستعجلة موجهة من حانة فندق “ريتس” حيث ترك عنوانه لغرض اللقاء برجل معيّن.

”عزيزي شارلي، لقد كنتَ غريبا عندما رأيتك ذلك اليوم، بحيث أخذتُ أتساءل ما إذا كنتُ قد أسأت إليك. فإذا كان الأمر كذلك، فأنا لست واعية بذلك. في الحقيقة، كنتُ أفكر فيك كثيرا جدا خلال السنة الماضية، وكانت فكرة احتمال رؤيتك إذا أتيتُ إلى هنا، في فكري دائما. لقد أمضينا أوقاتا ممتعة في ذلك الربيع المجنون، مثل تلك الليلة عندما سرقنا أنا وأنت دراجة الجزّار، وعندما حاولنا الاتصال هاتفيا بالرئيس وأنت تعتمر قبعة السباق القديمة والعصا المزينة بسلك.. كل واحد يشعر بالكبر في الآونة الأخيرة، ولكني لا أشعر بالكبر قيد أنملة. هل نستطيع اللقاء لبعض الوقت اليوم؟.. من أجل الأيام الخوالي! لدي خُمار خفيف هذه اللحظة، ولكني سأشعر بتحسن بعد الظهر، وأنتظرك في الخامسة في محل الحلويات في فندق ريتس.
المخلصة دوما: لورين”.
أول شعور خامره هو الخشية من أنه قد سرق فعلاً في سنوات شبابه دراجةً، ودرج ولورين حول ساحة النجمة بين منتصف الليل والفجر. وكان في استعادة أحداث الماضي وتأملها كابوس مقضّ. وإغلاق باب البيت في وجه هيلين لا ينسجم مع أي تصرف آخر في حياته، ولكن حادث الدراجة ينسجم، فقد كان واحدا من تصرفات عديدة مشابهة. كم من الأسابيع أو الشهور من الإسراف في الشرب تحتاج لكي تصل إلى وضعية اللامسؤولية الكاملة؟
حاول أن يتصوّر كيف كانت لورين تبدو له حينذاك جذابة جدا. وكانت هيلين غير سعيدة بسبب ذلك، رغم أنها لم تقُل شيئا. وفي المطعم يوم أمس، كانت لورين تبدو كئيبة وشاحبة ومنهكة. ولم يُرِد أن يراهاً قطعاً، وهو مسرور لأن أليكس لم يُعطِ عنوان فندقه. وبخلاف ذلك، فالتفكير في هونوريا يمنحه الشعور بالارتياح، وكذلك التفكير في أيام العطل التي أمضى معها وقول “صباح الخير لها” ومعرفة أنها هناك في منزله. وتنفّس في الظلام.

في الخامسة، استقل سيارة أجرة ومعه هدايا لجميع أفراد عائلة بيترز: دميةٌ بملابس فاتنة وصندوقُ جنود رومانيين وزهورٌ لماريون ومناديلُ حريرية كبيرة للنكولن.
وعندما وصل إلى الشقة، رأى أن ماريون قبلت بما لا يمكن تفاديه،وحيّته الآن كما لو كان فردا متمرّدا من أفراد العائلة، أكثر من كونه غريبا يشكّل تهديدا. وكانت هونوريا قد أُخبرت بأنها ستغادر: وكان شارلي سعيدا بلباقتها التي جعلتها تخفي فرحتها العارمة. فقط عندما أصبحت في حضنه همست سرورها وسؤال ”متى؟” قبل أن تنساب خارجة مع الطفليْن الآخريْن.
وبقي هو وماريون وحدهما دقيقة في الغرفة. وبدافع نزوة ما، تكلّم:
-إن الخلافات العائلية أشياء مُرّة. فهي لا تسير وفق أية قواعد. هي ليست كالأوجاع والجروح، بل أكثر شبها بشقوق الجلد التي لا تندمل لعدم وجود المادة اللازمة الكافية. وأرجو أن تكون العلاقة بيننا أفضل.
أجابت:
-من الصعب نسيان بعض الأمور، إنها مسألة ثقة.
ولم يكن ثمة جواب لذلك. والآن سألت:
-متى تريد أن تأخذها؟
-حالما أستطيع الحصول على مربية. آمل بعد غد.
-ذلك مستحيل. أريد أن أرتب أشياءها جيدا. ليس قبل يوم السبت.
قبلَ بذلك. وعاد لنكولن إلى الغرفة وعرض عليه شرابا.
قال:
-سآخذ ويسكيي اليومي.
ثمة دفء هنا، إنه البيت. والناس مجتمعون بالقرب من المدفأة، والأطفال يشعرون بأنهم في أمان وبأنهم مهمّون؛ والأم والأب يمتازان بالجد وبمراقبة أطفالهما. ولديهم أشياء يعملونها للأطفال، وهي أكثر أهمية من زيارته لهم. فملعقة دواء، مثلا، أكثر أهمية من علاقة متوترة بينه وبين ماريون. لم يكونوا أناسا أغبياء، بل كانوا مسيطرين كثيرا على الحياة وعلى الظروف. وتساءل ما إذا كان في مقدوره أن يفعل شيئا لإخراج لنكولن من روتين ذلك البنك.

قُرع جرس الباب طويلا. ومرّت الخادمة وذهبت إلى آخر الممر. فُتِح الباب مع رنين الجرس مرة أخرى، ثم أصواتٌ، واشرأبت أعناق الأشخاص الثلاثة الموجودين في الصالون. وعدّل لنكولن جلسته ليكون الممر في مدى النظر وقامت ماريون. ثم عادت الخادمة في الممر وتتبعها، مباشرة، أصواتٌ، وظهر، تحت الضوء، دونكن شيفر ولورين كوريلز.
كانا جذلين، كانا مرحين بصخب، كانا في قهقهة وضحك صاخب. صُعق شارلي وهلة، غير قادر على أن يفهم كيف حصلا على عنوان آل بيترز. وأشار دونكن إلى شارلي بأصبعه بخبث:
-آه، هاها، آه هاها.
وضجّا بالضحك مجددا.
بشعور بالقلق والخسارة، صافحهما شارلي بسرعة وقدّمهما للنكولن وماريون. حركت ماريون رأسها دون أن تتكلم وتراجعت خطوة نحو المدفأة ووقفت ابنتها الصغيرة بجانبها، فوضعت ماريون ذراعها حول كتفها.
وبانزعاج متزايد، بسبب هذا الاقتحام التطفّلي، انتظر منهما شارلي أن يعطيا تفسيرا، وبعد شيء من التركيز، قال دونكن:
-أتينا لندعوك إلى العشاء. وأنا ولورين نصرّ على أن هذا الاحتراس المخاتل بشأن عنوانك يجب أن يتوقّف.
-آسف، ولكنني لا أستطيع. أخبراني أين ستكونان وسأهاتفكما خلال نصف ساعة.
لم يكن لقوله مفعول. فقد جلست لورين على جانب كرسي، وركزت عينيها على ريتشارد، وصاحت:
-أوه! ما ألطف هذا الولد الصغير! تعال هنا، أيها الولد الصغير!
نظر ريتشارد إلى أمه ولكنه لم يتحرّك. وبهزة من كتفيها، التفتت لورين إلى شارلي:
-تعالَ وتعشّ. من المؤكّد أن أقرباءك لا يمانعون. نراك لاحقاً أيها الوقور.
قال شارلي بحدّة:
-لا أستطيع. تناولا أنتما العشاء، وسأهاتفكما.
فجأة، صار صوتها كريهاً:
-طيب، سنذهب. ولكنني أتذكر عندما طرقت بابي ذات مرة في الرابعة صباحا. كنتُ دمثة بصورة تكفي لإعطائك مشروبا. لنذهب، يا دونك.
وبحركة بطيئة وبوجهين غاضبين شاحبين، جرجرا أقدامهما على امتداد الممر. قال شارلي:
-تصبحان على خير.
وعندما عاد إلى الصالون، لم تكن ماريون قد تحرّكت وأصبح ابنها الآن واقفا في دائرة ذراعها الأخرى. وكان لنكولن يؤرجح هونوريا من جانب إلى آخر مثل بندول.
وانفجر شارلي:
-أية وقاحة! أية وقاحة خارقة!
لم يُجب أي منهما. وانهار شارلي في أريكة ورفع كأسه وأعاده مرة أخرى وقال:
-لم أرهما منذ سنتين ولديهما الجرأة..
وتوقف فجأة. وقالت ماريون ”أوه!” مع نفَس غاضب سريع، وحوّلت جسمها عنه بحركة مفاجئة وغادرت الغرفة. أجلس لنكولن هونوريا بعناية وقال:
-أنتم الأطفال، اذهبوا وتناولوا حساءكم.
وعندما أطاعاه، قال لشارلي:
-حسناً، سيء جدا. وهذا لا يساعد الموضوع. اسمح لي بدقيقة.
وعندما تركه لوحده، جلس شارلي متوترا في كرسيه. وكان يسمع الأطفال يأكلون في الغرفة المجاورة ويتحدثون بكلمات متقطّعة غير واعين بالمأزق الذي كان فيه كبارهم. وسمع همهمات محادثة من غرفة أبعد. ثم رن جرس الهاتف ورُفعت السماعة، وفي وجل تحوّل إلى الجانب الآخر وصار في منأى عن السمع. وبعد دقيقة، عاد لنكولن:
-اسمع، شارلي، أظن أن من الأحسن إلغاء العشاء الليلة. ماريون في حالة سيئة.
-هل هي غاضبة عليَّ؟
قال بخشونة تقريبا:
نوعاً ما.. وهي ليست قوية بما يكفي الآن و…
-أتعني أنها غيّرت رأيها بشأن هونوريا؟
-إنها تشعر بمرارة في هذه اللحظة. اتصل بي هاتفياً في البنك غدا.
-أرجو أن تشرح لها أنني لم أحلم أبدا بأن يأتي هؤلاء الناس إلى هنا. وأنا متألِّم مثلكما تماما.
-لا أستطيع أن أشرح لها أي شيء الآن.
قام شارلي. تناول معطفه وقبعته وبدأ يسير في الممر. ثم فتح باب غرفة الطعام وقال بصوت غريب:
-تصبحون على خير، أيها الأطفال.
قامت هنوريا وجرت حول المائدة لتعانقه. قال بغموض: -تصبحين على خير يا حبيبتي.
ثم حاول أن يجعل صوته أرق قليلا:
-تصبحون على خير أيها الأطفال.

ذهب شارلي مباشرة إلى حانة فندق “ريتس” وهو غاضب ليبحث عن لورين ودونكان ولكنهما لم يكونا هناك. وأدرك أنه ليس ثمة ما يستطيع فعله على أية حال. لم يكن قد مس مشروبه في منزل آل بيترز، والآن طلب ويسكي مع الصودا. وجاء بول ليسلم عليه، وقال بحزن:
-إنه تبدّلٌ كبير، فنحن لدينا نصف العمل الذي كان. فقد سمعت أن كثيرا من الأصحاب الذين عادوا إلى الولايات المتحدة خسروا كل شيء، ربما ليس في انهيار السوق الأول، ولكنْ في الانهيار الثاني. سمعت أن صديقك جورج هارت خسر كل سنت. هل عدت إلى الولايات المتحدة؟
-لا، أنا أعمل في براغ.
-سمعتُ أنك خسرت كثيرا في انهيار السوق.
-نعم.
وأضاف بحزن:
-ولكنني خسرت كل شيء أريده إبان الازدهار.
-هل بعتَ بخسارة؟
-شيء من هذا القبيل.

ومرة أخرى اجتاحته ذكرى تلك الأيام مثل كابوس الناس الذين التقيا بهم أثناء السفر؛ ثم الناس الذين لم يحسنوا جمع أعداد قليلة أو النطق بجملة مفيدة؛ الرجل الصغير الذي رضيت هيلين بأن ترقص معه في الباخرة، والذي أهانها على بُعد عشرة اقدام من المائدة؛ والنساء أو الفتيات اللواتي نُقِلن وهن يصرخن من الأماكن العامة بسبب السكر أو المخدرات.. الرجال الذين يوصدون الأبواب في وجه زوجاتهم ويتركونهنّ في الثلج، لأن ثلج (الانهيار الاقتصادي لـ1929) لم يكن ثلجاً حقيقيا. وإذا لم تكن تريده أن يكون ثلجا فما عليك إلا أن تدفع بعض المال. ذهب إلى الهاتف واتصل بشقة آل بيترز. رد لنكولن على الهاتف:
-إنني اتصل لأن هذا الشيء يشغل بالي.. هل قالت ماريون أيَّ شيء؟
أجاب ماريون باقتضاب:
-ماريون مريضة. أعرف أن ما حدث لم يكن غلطتك، ولكنني لا أريدها أن تتحطم بسببه. أخشى أن علينا أن نؤجل الموضوع ستة شهور. لا أريد أن أغامر بحملها على ذلك مرّة أخرى وهي في هذه الوضعية.
-أفهم.
-أنا آسف، شارلي.
رجع إلى طاولته وكان كأسه فارغا من الويسكي، ولكنه هز رأسه عندما نظر أليكس إلى الكأس متسائلاً. ليس ثمة شيء يمكن أن يفعله الآن سوى إرسال بعض الأشياء إلى هونوريا؛ سيبعث إليها بأشياء كثيرة غدا. وفكّر بشيء من الغضب أن ذلك مجرد نقود، وكان قد أعطى منها لكثير من الناس.
-لا، لا مزيد.
قال لنادل آخر.
-كم الحساب
سيعود يوما ما، فهُم ليس في وسعهم أن يجعلوه يدفع إلى الأبد. ولكنه يريد طفلته وليس هناك شيء جيد آخر غير هذه الحقيقة. وهو لم يعُد شابا مع كثير من الأفكار والأحلام الجيدة بمفرده. وهو متأكّد تماما من أن هيلين لا تريده أن يبقى وحيدا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *