بعد مرض داراه في صمت، وكان يرفض إثارته إعلاميا، رحل عنا الكبير فتح الله المغاري عن عمر يناهز الثمانين سنة، وعن عشق يضاهي الكون.

آخر مرة اتصلت به كان قبل أشهر،  جاء صوته عبر الهاتف أجشا، وأخبرني بأن صحته تتحسن لكنه ألح علي على أن لا أثير موضوع مرضه، لم يكن الرجل يخجل من المرض والضعف، لكنه كان لا يقبل أن ينظر إليه أحد بشفقة وعطف، هو إحساس الشاعر الذي ينظر للأشياء بعين لا يملكها الإنسان العادي.

فتح الله لمغاري رحل ولن يموت في قلوبنا لأنه بكل بساطة عنوان لمرحلة فنية وإنسانية متميزة.

 لقد كان فتح الله لمغاري من الرواد الذين عملوا بكل جهد على مغربة الأغنية العصرية، كان له الفضل في ذلك بشعره وبصوته وبألحانه، وقد كان متفان في إنجاز هذا المشروع، إلى جانب ثلة من الفنانين، عمل إلى جانبهم بتفان من أجل ربط الغناء العصري بالمغرب بجذوره الشعبية.

 هي مدرسة شكلها لمغاري إلى جانب عبد الرحيم السقاط وعبد القادر الراشدي ومحمد بن عبد السلام وعبد الهادي بلخياط وغيرهم، المدرسة التي سوف تعضد عمل أحمد البيضاوي وفريقه الذي أنشأ الأغنية العصرية في المغرب وإن بارتباط مشرقي وثيق.

لم يكن فتح الله لمغاري ينوي أن يكون مغنيا، لقد كان شاعرا ينظم القصائد باللغة المغربية وبالإحساس المغربي،  وكانت تربطه علاقة صداقة مع ثلة من الفانين، خصوصا أبناء فاس حيث المولد، لكنه لم يكن في نيته أن يصبح مغنيا.

غير أن فتح الله لمغاري سيجد نفسه من بين مطربي مرحلة نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، بل سينغمس في كل ما يهم الأغنية في المغرب وسيصبح الشاعر والمغني والملحن أيضا.

سيكون فتح الله لمغاري هو أركان الأغنية الثلاث: الشعر واللحن والصوت، كانت البداية بالصدفة، فقد نظم قصيدته كأس البلار، وسلمها لعبد الرحيم السقاط قصد تلحينها ثم البحث عن صوت يغنيها، لكن رياحا ستهب ستحول مسار الأغنية ومعه مسار فتح الله.

 أثناء التلحين بدأ السقاط يعزف اللحن على آلة العود، فبدأ فتح الله يغني معه، توقف عبد الرحيم السقاط فجأة وقال لصديقه فتح الله: ليس هناك صوتا أحسن منك يغني كأس البلار، اعتقد لمغاري أول الأمر أن صديقه يمزح معه، فضحك، إلا أن السقاط كرر كلامه وهذه المرة بإلحاح شديد منبها لمغاري بأن خامته الصوتية لعروبية الشعبية تليق بالأغنية.

 هكذا جاءت أغنية كأس البلار، وهكذا ولد فتح الله لمغاري المغني..

انتشرت أغنية كأس البلار واشتهر فتح الله لمغاري وكبر التحدي أمامه، لم يكن تحدي الشعر الغنائي فحسب، بل انضاف إليه الغناء بما يحمله من مسؤولية وأعباء، عكف لمغاري على التشبع بقواعد الموسيقى وواصل قرض الشعر الغنائي، كل هذا وهو يزاول عملا صعبا في مؤسسة مالية كبيرة حيث يشغل منصب محاسب.

بعد استئناس بقواعد الموسيقى وفهمها واستدماجها، سوف ينتقل فتح الله لمغاري إلى تحد آخر هو التلحين، فبدأ يلحن أغانيه ويلحن لمطربات ومطربين مغاربة.

أغنى فتح الله لمغاري خزانة الأغنية في المغرب، وترك أغان غاية في الروعة منها كأس البلار وخسارة فيك غرامي ورجال الله التي غناها هو نفسه والظروف لعبد الهادي بلخياط ويما للطيفة رأفت وهذا حالي لنعيمة سميح وفايت لي شفتك لسميرة بن سعيد وغيرها كثير من الأغاني الناجحة.

غير أن أحب أغنية لقلب فتح الله لمغاري هي أغنية صوت الحسن التي نظم كلماتها مباشرة بعد الخطاب الملكي الداعي للمسيرة الخضراء، ولحنها الفنان عبد الله عصامي وغنتها المجموعة. لقد أحب لمغاري هذه الأغنية واعتبرها باكورة إلهام رباني حباه الله به وهو يلج عالم الفن.

لم تكن مسيرة فتح الله لمغاري بالرومانسية الظاهرة، فلكل إبداع ثمنه، وكان الحقل مليئا بالألغام، كانت المشاكل تطفو بين الفينة الأخرى بتدبير من جهات فنية حاسدة أو برؤية مختلفة لما يجب أن تكون عليه الأغنية العصرية في المغرب.

 ومما واجهه فتح الله لمغاري في نهاية الستينيات المنع الذي طال أغنيته الظروف، كان فتح الله لمغاري قد نظم قصيدة مستوحاة من قصة حب واقعية، وبدأ الاشتغال على الأغنية التي سيؤديها عبد الهادي بلخياط ويلحنها محمد بن عبد السلام، هذا ما حدث، فتم تسجيل الأغنية تقرر أن تبرمج في وقت معين في الإذاعة وهذا ما كان.

غير أن ما وقع سيعدم الإنية لسنوات طويلة حيث لم تمر في الإذاعة الوطنية إلا بعد وفاة الراحل الحسن الثاني، كان فتح الله لمغاري رفقة عبد الهادي بلخياط عند محمد بن عبد السلام في بيته يستمعون للأغنية في الراديو وفجأة توقفت الأغنية وهي لم تكتمل بعد، نظر الثلاثة إلى بعضهم واعتقدوا أن طارئا وقع في البلاد أوقف الأغنية، لكن الإذاعة ستواصل برامجها بشكل عادي ليتبين أن جهة ما منعت الأغنية.. كانت الأغنية تتحدث عن ظروف قاسية وهي تقول:

علاش جيتي فهاد الظروف                         

ظروف قاسية وصعيبة      

خوفي عليك وأنت معروف

ويلا الناس دوات مصيبة

وبالفعل كان المغرب حينها يمر من ظروف سياسيىة صعبة، فأولت الجهة المتحكمة في البرمجة بالإذاعة الوطنية كلام الأغنية ومنعتها.. وعلى الرغم من تشكي فتح الله لمغاري للراحل الحسن الثاني، إلا أن المنع بقي ساريا إلى غاية بداية الألفية الثالثة..وعلى الرغم من كل الظروف بقي فتح الله لمغاري صامدا وبقي يشتغل بإمكانياته خدمة للفن.

رحم الله فقيدنا العزيز الذي سيبقى خالدا بما قدمه لبلده وللإنسانية

*حكيم بلمداحي /كاتب صحفي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *