إعداد: إلياس زهدي

حلقة 4

المعطف -نيكولاي غوغول (1809 -1852)

(3/ 2)

هكذا كانت تمضي حياة هذا الرجل الوادعة، هذا الرجل الذي كان راضيا عن حظه بالأربعمائة روبل التي يتقاضاها في السنة. وربما مضت إلى أرذل العمر، لولا وجود شتى المصائب المتناثرة على درب الحياة، ليس فقط أمام المستشارين الاعتباريين، بل والمستشارين السريين الفعليين ومستشاري البلاط(3) وغيرهم من المستشارين. وحتى أولئك الذين لا يقدّمون استشارات لأي شخص ولا يطلبون المشورة من أحد. في بطرسبورغ ثمة عدو لدود لكل من يتقاضى أربعمائة روبل في السنة أو زهاء هذا. وهذا العدو ليس إلا صقيعنا الشمالي، رغم أنه يقال إنه مفيد جداً للصحة. ففي بداية الساعة التاسعة صباحا، وبالذات عندما تكتظ الشوارع بالذاهبين إلى العمل، يبدأ هو في توجيه لذعات حادة قوية إلى جميع الأنوف دونما تمييز؛ حتى أن الموظفين المساكين لا يعرفون أبداً أين يخفونها. وفي تلك الساعة يشعر حتى أولئك الذين يشغلون مناصب عليا بألم في جباههم من البرد وتطفر الدموع من عيونهم. أما المستشارون الاعتباريون المساكين فيصبحون أحياناً بلا حماية، والمخرج الوحيد هو أن يركضوا في معاطفهم الهزيلة بأسرع ما يستطيعون ليقطعوا خمسة أو ستة شوارع، ثم يدقوا بأقدامهم جيدا في المدخل لكي يذيبوا ما تجمد في الطريق من قدرات ومواهب على أداء الأعمال الوظيفية.

في الفترة الأخيرة، بدأ أكاكي أكاكيفتش يحس بوخز شديد، خاصة في ظهره وكتفه، رغم أنه كان يحاول أن يقطع المسافة المشروعة بأسرع ما يمكن. وأخيرا، فكر: ألا يرجع ذلك إلى بعض العيوب في معطفه؟ وعندما فحصه جيدا في المنزل اكتشف أنه أصبح، في موضعين أو ثلاثة، وبالذات عند الظهر والكتفين، مثل الخيش تماما، فقد رق نسيجه إلى درجة أن الهواء صار ينفذ خلاله، أما البطانة فقد تهرّأت.

وينبغي أن نعرف أن معطف أكاكي أكاكيفتش كان، أيضا، مادة لسخريات الموظفين، بل لقد نزعوا عنه اسم «المعطف» النبيل وسموه «كبّوطْ». وبالفعل فقد كان شكله غريبا؛ كانت ياقته تصغر سنة بعد أخرى، لأنها كانت تستخدم في ترقيع الأجزاء الأخرى. وكشف الترقيع ضعف مهارة الخياط، فكانت الرقَع تبدو قبيحة وخرقاء. وعندما عرف أكاكي أكاكيفتش حقيقة الأمر قرر أن يأخذ المعطف إلى بيتروفتش، الخياط الذي يقطن في شقة ما في الطابق الرابع، من ناحية سلم الخدم، والذي كان رغم عوره ووجهه المصاب كله بالجدري، يزاول بنجاح كبير تصليح معاطف الموظفين وسراويلهم وحللهم وما إلى ذلك؛ بالطبع عندما يكون مركزا وليس في رأسه مشاريع أخرى. وما كان هذا الخياط ليستحق منا أن نتحدث عنه كثيرا، ولكنْ بما أن العادة جرت على أن يحدد في القصة طبع كل شخصية بوضوح تام، فلا حيلة إذن. هيا قدّموا لنا بيتروفتش أيضا..

كان في البداية يدعى، ببساطة، غريغوري. وكان من عبيد الأرض عند أحد السادة. ثم أصبح يدعى بيتروفتش بعدما أُعتق. وقد أصبح يسكر بشدة في جميع الأعياد؛ في البداية في الأعياد الكبيرة، وبعد ذلك دون تمييز، في جميع الأعياد الدينية، وحيثما وضعت إشارة الصليب أمام أي يوم من أيام التقويم.

وبينما كان أكاكي أكاكيفتش يصعد السلم المؤدي إلى بيتروفتش أخذ يفكر في المبلغ الذي سيطلب. وقرر في ذهنه ألا يعطيه أكثر من روبلين. كان الباب مفتوحا، لأن ربة البيت تقلي سمكا، فملأت المطبخ بالدخان إلى درجة أنه لم يعد من الممكن حتى رؤية الصّراصير نفسها. ومر أكاكي أكاكيفتش عبر المطبخ دون حتى أن يرى ربة البيت ذاتها، إلى أن وصل أخيرا إلى غرفة رأى فيها بيتروفتش جالسا على طاولة خشبية عريضة غير مطلية، طاويا قدميه تحت، مثل باشا تركي. كانت قدماه، كعادة الخياطين الجالسين إلى عملهم، عاريتين. وأول ما لفت نظر أكاكي أكاكيفتش تلك الإصبع الكبيرة المعروفة جدا له، ذات الظفر المشوه، الإصبع السمينة القوية مثل صدفة سلحفاة. ومن رقبة بتروفتش تدلت ذؤابة من الحرير والخيوط، وعلى ركبتيه حشو ما. كان منذ حوالي ثلاث دقائق يحاول إدخال الخيط في ثقب الإبرة ولا يستطيع، ولذلك كان ساخطا على العتمة، بل وحتى على الخيط نفسه، وهو يدمدم بصوت خافت «لا يدخل هذا الوغد، أيها الملعون! أنهكتني!»..

وشعر أكاكي أكاكيفتش بالضيق من مجيئه في هذه اللحظة التي كان فيها بيتروفتش فيها غاضبا، فقد كان يوصي بيتروفتش بشيء ما عندما يكون الأخير منتعشا بعض الشيء، أو كما كانت زوجته تقول «عبّ من خبرته الرّخيصة، هذا الشيطان الأعور». ففي مثل هذه الحالة كان بيتروفتش في العادة يتنازل ويوافق عن طيب خاطر، بل كان ينحني كثيرا ويلهج بالشكر. صحيح أن زوجته كانت تأتي بعد ذلك وهي تصرخ وتشكو من أن زوجها كان آنذاك ثملا، ولذلك وافق على ثمن بخس؛ لكن الأمر كان ينتهي بزيادة عشرة كوبيكات فقط وتسوّى الأمور. أما الآن فيبدو أن بيتروفتش غير ثمل، ولذلك فهو صعب المراس، لا يلين، وسيطلب، على الأرجح، ثمنا باهظا. أدرك أكاكي أكاكيفتش ذلك وأراد أن يعود أدراجه، ولكن كان قد بدأ الأمر. رفع بتروفتش عينه الوحيدة مسدداً نظرتها الثاقبة إليه، فتفوه أكاكي أكاكيفتش مسلوب الإرادة:

مرحبا يا بيتروفتش!
فقال بتروفتش:
مرحباً بكم يا سيدي

ونظر بطرف عينه نحو يدي أكاكي أكاكيفتش رغبة منه في أن يعرف ما هو الصيد الذي جاء به هذا إليه.

-ها أنذا قد جئت إليك، يا بيتروفتش، بهذا! أقصد…

وينبغي أن نعرف أن أكاكي أكاكيفتش كان يعبر عن أفكاره في أغلب الأحوال بحروف الجر والظروف، وأخيرا، بالأدوات التي ليس لها أي معنى على الإطلاق. أما إذا كانت المسألة صعبة جدا فقد كان من عادته ألا ينهي الجملة أبدا. ولذلك كان كثيرا ما يبدأ حديثه بهذه الكلمات «هذا في الواقع… أقصد… تماما…، وبعد ذلك لا يقول شيئا وينسى، هو نفسه، وهو يظن أنه قد قال كل شيء.

-ما هذا؟

قال بيتروفتش وهو يتفحص، بعينه الوحيدة، حلة أكاكي أكاكيفتش كلها، ابتداء من الياقة حتى الأكمام والظهر والصدر والعُرى وكل ما كان معروفا لديه جيدا، لأنه كان من صنع يديه. تلك عادة الخياطين، وهذا أول ما يفعل الخياط عندما يلقاك.

-وها أنذا، يا بيتروفتش، أقصد… المعطف… الجوخ… انظر، في كل مكان آخر ما زال متيناً، لقد تعفر قليلا، ويبدو وكأنه قديم، لكنه جديد، فقط في مكان واحد، أقصد… على الظهر، وأيضا هنا على كتف واحد تلف قليلا، وعلى هذا الكتف أيضا قليلا.. أترى؟ هذا كل شيء، عمل قليل!

أخذ بتروفتش “الكبّوط” وبسطه على الطاولة أولا وفحصه طويلا وهزّ رأسه ومد يده إلى النافذة ليأخذ علبة القسط الهندي (السعوط أو “التنفيحة”) المستديرة والمرسوم عليها صورة جنرال ما؛ لا يعرف أي جنرال هو، لأن المكان الذي كان وجهه مرسوما عليه قد ثقب وغُطي بقطعة ورق مربعة. واستنشق بتروفتش السعوط وبسط المعطف بين يديه وفحصه في مواجهة النور. وهز رأسه ثانية، ثم قلبه، فجعل بطانته إلى أعلى وهز رأسه، من جديد. نزع، مجددا، غطاء العلبة بصورة الجنرال المغطى بورقة، وبعد أن حشا أنفه بكمية أخرى أغلق العلبة وخبّأها… وأخيرا، قال:

-كلا، لا يمكن إصلاحه؛ إنه بال.

أحس أكاكي أكاكيفتش عند سماعه هذه الكلمات بوخزة في قلبه.

-ولماذا لا يمكن يا بيتروفتش؟ (قال بصوت ضارع كصوت الطفل تقريبا) كل ما فيه أنه أصبح خفيفا عند الكتفين، وأنت لديك حتما قطع ما.

-نعم، يمكن أن أجد قطعا، القطع موجودة، لكن لا يمكن تثبيتها.. النسيج مهترئ تماما، ما إن تلمسه بالإبرة حتى يتفسخ.

-فليتفسخ، أما أنت فلتضع رقعة على الفور.

-ليس هناك ما توضع عليه الرقعة، لا يوجد ما تثبّت عليه، إنه مستهلك جداً، الاسم فقط جوخ، ولكن لو هبَّت عليه الريح فسيتطاير.

-حاول أن تثبتها. كيف إذن… في الواقع… أقصد؟!…

-كلا (قال بتروفتش بحسم) لا يمكن عمل شيء. أما المعطف فيبدو أنك ستضطر إلى تفصيل واحد جديد.

عند سماع كلمة «جديد» غامت عينا أكاكي أكاكيفتش واختلط أمام نظره كل ما كان في الغرفة. لم ير بوضوح سوى الجنرال، بوجهه المغطى بورقة على غطاء علبة سعوط بيتروفتش.

-معطف جديد… كيف؟ (قال وكأنما لا يزال نائما) ليس لدي نقود لذلك.

-نعم، جديد (قال بتروفتش بهدوء مستفزّ).

-وإذا اضطررت إلى شراء معطف جديد فكيف؟… أقصد… هو…

-تقصد كم يساوي؟

-نعم.

-سيكون عليك أن تدفع ثلاث ورقات من فئة الخمسين أو أكثر قليلا.

قال بتروفتش وزمّ شفتيه زمة ذات مغزى. كان يحب جدا التأثيرات القوية. كان يحب أن يُربك من أمامه فجأة بطريقة ما، ثم ينظر بعد ذلك بطرف عينه إلى التعبير الذي يكسو ملامح الشخص المرتبك بعد سماع كلماته. وصرخ أكاكي أكاكيفتش المسكين:

-مائة وخمسون روبلا لمعطف!؟

صرخ، ربما لأول مرة في حياته، فقد كان معروفا دائما بصوته الخافت.

-نعم، وهذا يتوقف أيضا على نوع المعطف؛ فلو وضعنا على الياقة فراء سنسار وبطنّا القلنسوة بالحرير فيصل إلى المائتين.

-بتروفتش! أرجوك! (قال أكاكي أكاكيفتش بصوت ضارع وهو لا يسمع ولا يحاول أن يسمع ما قاله بتروفتش من كلمات وجميع تأثيراته) أصلحه بأي طريقة، لكي أستخدمه ولو فترة أخرى.

-كلا، هذا لا يمكن، سيكون ذلك إهدارا للعمل وتضييعا للنقود عبثا.

قال بيتروفتش، فخرج أكاكي أكاكيفتش من عنده بعد هذه الكلمات محطما تماما. أما بيتروفتش فقد ظل بعد خروجه واقفا مدة طويلة، وقد زمّ شفتيه زمة ذات مغزى، وهو لا يشرع في العمل. وقد أرضاه أنه لم يفرّط في كرامته، كما أنه لم يخنْ فنه كخياط.

عندما خرج أكاكي أكاكيفتش إلى الشارع كان كأنه في حلم. ومضى يحدث نفسه «يا له من أمر! يا لها من قضية! في الحقيقة لم أكن أظن أن المسألة… اقصد… ستكون»… وبعد فترة صمت استطرد «هكذا إذن! هذا حقا غير متوقع أبداً، أقصد… أبدا، لكن… يا لها من ورطة!».. وبعد أن قال ذلك، وبدل أن يذهب إلى البيت، سار في اتجاه آخر تماما، وهو لا يدري.

وفي الطريق احتك به منظف مداخن بجنبه الملوَّث فسوّد كتفه كلها. وانهال عليه كوم من الملاط من قمة منزل يجري بناؤه. لم يلاحظ ذلك كله. وفي ما بعد، عندما اصطدم بالدركي الذي كان قد أسند مديته إلى جواره وأخذ ينفض التبغ من علبة فوق راحته الخشنة. عند ذاك تنبّه أكاكي أكاكيفتش قليلاً؛ فقط لأن الحارس قال له:

-ما لك تندفع مصطدما بالحاجز!؟ أليس أمامك رصيف!؟

جعله ذلك يتنبه ويعود أدراجه إلى المنزل. وهنا فقط بدأ يستجمع شتات أفكاره، فرأى وضعه في صورته الحقيقية الواضحة. وأخذ يحدث نفسه، لا بعبارات متقطعة، بل بحكمة وصراحة، كأنما يتحدث إلى زميل راجح يمكن أن تفضي إليه بأخص أسرار القلب. قال أكاكي أكاكيفتش «لا، لا يمكن! الكلام مع بيتروفتش الآن مستحيل! فهو الآن يقصد… يبدو أن زوجته أشبعته ضربا. الأفضل أن أذهب إليه صباح الأحد، فبعد السبت سيكون زائغ النظرات ونعسان وفي حاجة إلى الشراب، وزوجته لن تعطيه نقودا. وعندئذ أدسّ… أقصد… في يده عشرة كوبيكات، فيصبح الاتفاق معه أسهل، وعندئذ سيأخذ المعطف، أقصد»… هكذا حدث أكاكي أكاكيفتش نفسه وشجعها. وانتظر حلول يوم الأحد.

وعندما رأى، من بعيد، زوجة بتروفتش تيخرج لأمر ما من المنزل، توجه إليه مباشرة. وبالفعل، كان بيتروفتش بعد السبت زائغ النظرات بشدة، ورأسه مدلى نحو الأرض، وكان نعسان جدا. ورغم كل ذلك فما إن عرف بالأمر حتى اعتدل، كأنما وخزه الشيطان، وقال:

-لا يمكن! فلتتكرم بتفصيل معطف جديد.

وفي تلك اللحظة دسّ أكاكي أكاكيفتش في يده عشرة كوبيكات. فقال بيتروفتش: «أشكرك، يا سيدي، سأشرب قليلا في صحتك. أما بخصوص المعطف فلا تقلق، إنه لا ينفع أية منفعة. سأخيط لك معطفا جديدا عظيما على هذا.. اتفقنا.

أراد أكاكي أكاكيفتش أن يفتح فمه ليتحدث عن التصليح، ولكن بتروفتش لم يصغ إليه وقال:

-سأخيط لك واحدا جديدا بكل تأكيد، بوسعك أن تعتمد علي في ذلك، سأبذل جهدي، وربما ركّبتُ الياقة بمشابك فضية، وفق الموضة الآن.

عند ذاك أدرك أكاكي أكاكيفتش أنه لا يمكن التنصل من تفصيل معطف جديد، فانهار تماما. وبالفعل، كيف يمكن أن يفصّله، بأية نقود؟ ومن أين له بها؟ بالطبع، كان ممكنا الاعتماد، جزئيا، على المكافأة المقبلة بمناسبة العيد، ولكنّ هذا المبلغ قد وُزع وحُددّت أوجه إنفاقه سلفا منذ زمن بعيد. فقد كان من المطلوب اقتناء سروال جديد وتسديد دين قديم للإسكافي مقابل تركيب رقبة جديدة للحذاء القديم. وكان عليه، أيضا، أن يوصي الخياطة بثلاثة قمصان وعلى قطعتين من تلك الملابس التي لا يليق ذكر اسمها في نص مطبوع. وباختصار، كان من المفروض إنفاق المبلغ كله، حتى لو تَكرّم المدير وصرف له بدل الأربعين روبلاً المقررة خمسة وأربعين أو خمسين فلن يتبقى منها، رغم ذلك، سوى مبلغ تافه لن يكون في رصيد المعطف سوى قطرة من بحر. رغم أنه كان يعرف طبعا أنه كان من عادة بيتروفتش أحياناً أن يطلب فجأة مبلغا لا يُعقل، حتى أن زوجته كانت لا تتمالك نفسها، فتصيح به «ماذا دهاك!؟ هل جننت، أيها الأحمق؟! مرة لا يرضى أن يعمل بأي حال، والآن يدفعه الشيطان إلى طلب سعر لا يساويه المعطف حتى مقابل ثمانين روبلا، ورغم ذلك فمن أين يأتي بالثمانين روبلا هذه؟ ربما أمكن تدبير نصف المبلغ، نعم، ربما وجد نصفه، بل وربما أكثر قليلا، ولكنْ من أين يأتي بالنصف الآخر؟ لكن ينبغي أن يعرف القارئ، أولا، من أين جاء النصف الأول.. كان من عادة أكاكي أكاكيفتش أن يوفر من كل روبل ينفقه نصف كوبيك ويضعه في صندوق صغير مقفل، ذي فتحة في غطائه لإلقاء النقود فيها. وكان كل نصف عام يغير قطع النقود النحاسية المتجمعة هناك بقطع فضية. هكذا كان يفعل منذ زمن طويل. وعلى هذا النحو تجمع لديه خلال عدة سنوات مبلغ يفوق الأربعين روبلا. كان معه نصف المبلغ إذن؛ ولكنْ من أين يأتي بالنصف الآخر؟

فكر أكاكي أكاكيفتش طويلا، ثم قرر أنه ينبغي عليه أن يخفض نفقاته العادية، ولو خلال عام واحد على الأقل: يمتنع عن تناول الشاي كل مساء ولا يشعل الشمعة مساء. وإذا تطلب الأمر أن يعمل فليذهب إلى غرفة صاحبة البيت ويعمل هناك على ضوء شمعتها. عليه أيضا أن يسير في الشارع بأقصى ما يمكن من الخفة والحذر وهو يخطو فوق الأحجار والبلاط على أطراف أصابعه تقريبا، لكي لا يبلى نعله بسرعة. وأن يقلل، ما أمكن، إعطاء ملابسه للغسالة. وحتى لا تبلى عليه أن يخلعها كلما عاد إلى المنزل ويبقى فقط بالروب القطني، العتيق جدا، والذي رأف بحاله حتى الزمن نفسه. وللحقيقة، ينبغي أن نقول إنه كان من الصعب عليه، إلى حد ما في البداية، أن يتعود على هذه القيود. ولكنه ألفها في ما بعد وسارت الأمور على ما يرام. بل إنه تعود تماما على الجوع في المساء. وفي المقابل، فقد كان يتغذى معنويا، وهو يحمل في خاطره الفكرة الخالدة عن المعطف المقبل.

ومنذ تلك اللحظة بدا وكأنَّ وجوده نفسه أصبح أكثر اكتمالا، وكأنما تزوج؛ كأنما أصبح يلازمه شخص ما؛ كأنما لم يعد وحيدا. بل وافقت شريكة حياة لطيفة على أن تمضي معه في درب الحياة.. ولم تكن شريكة الحياة تلك سوى المعطف، ذي الحشوة القطنية السميكة والبطانة المتينة التي لا تعرف البلى. وأصبح أكاكي أكاكيفتش أكثر حيوية، بل وأصبحت شخصيته أكثر صلابة، كشخص حدد لنفسه هدفا وسعى إليه. واختفت من وجهه ومسلكه، تلقائيا، الشكوك والتردد، أي كل الملامح المتذبذبة وغير المحددة. وكانت عيناه تتوقدان أحيانا، وكانت أكثر الخواطر جرأة وجسارة تومض في ذهنه. فماذا لو ركّب فعلا ياقة من فراء السنسار!؟

وكاد التفكير في ذلك يجعله نهباً لشرود الذهن. فذات مرة، أوشك أن يخطئ وهو ينسخ الأوراق، حتى أنه صاح بصوت مسموع تقريبا «أوه!» ورسم بيديه علامة الصليب. وكان كل شهر يزور بيتروفتش، مرة على الأقل، لكي يتحدث عن المعطف ومن أين يستحسن أن يشتري الجوخ ومن أي لون وبأي ثمن… وكان يعود من عنده مهموما بعض الأحيان، إلا أنه كان يعود راضيا دائما وهو يفكر في أنه سيأتي أخيرا ذلك الزمن الذي سيشتري فيه كل ذلك ويصبح المعطف جاهزاً. بل لقد سارت الأمور بأسرع مما كان يتوقع؛ فخلافا لكل الأحلام، قرر المدير لأكاكي أكاكيفتش ليس أربعين ولا خمسة وأربعين روبلا، بل ستين روبلا كاملة. وسواء أحس المدير بأن أكاكي أكاكيفتش في حاجة إلى معطف أم أن ذلك حدث عفوا، فقد أصبح لديه نتيجة لذلك عشرون روبلا إضافية. وعجّل هذا الوضع بسير الأمور، فبعد شهرين أو ثلاثة من الجوع البسيط، أصبح لدى أكاكي أكاكيفتش بالضبط حوالي ثمانين روبلا. وبدأ قلبه، الذي كان هادئا للغاية بصفة عامة، يدقّ. وفي اليوم نفسه ذهب مع بيتروفتش إلى المحلات وابتاعا قماشا جيدا جدا. ولا عجب؛ فقد كانا يفكران في ذلك قبل نصف عام. ونادرا ما مر شهر دون أن يذهبا إلى المحلات للسؤال عن الأسعار.

في المقابل، قال بيتروفتش نفسه إنه ليس هناك جوخ أفضل منه. واختار للبطانة قماشا بفتة، ولكنه كان متينا وسميكا، وحسب كلام بيتروفتش، أفضل من الحرير. بل كان منظره أبهى وأكثر لمعانا. ولم يشتريا فراء السنسار، لأنه كان بالفعل غاليا. وبدله اختارا فراء قط أفضل لم يجدا غيره في المحل، فراء قط يمكن دائما أن تظنه فراء سنسار إذا نظرت إليه من بعيد.

واستغرق بيتروفتش أسبوعين في خياطة المعطف، لأنه تطلب الكثير من التنجيد، ولولا ذلك لفرغ منه قبل ذلك. وأخذ بيتروفتش اثني عشر روبلا أجرا، ولم يكن من الممكن إعطاؤه أقل من ذلك. فقد كانت الخياطة كلها بخيوط من الحرير وبخياطة دقيقة مزدوجة. ومر بيتروفتش على كل الخياطة بأسنانه، بعد ذلك، مُزيلا بها شتى النتوءات. وكان ذلك في… من الصعب أن نقول في أي يوم كان ذلك بالضبط، ولكنه على الأرجح كان أكثر الأيام مهابة في حياة أكاكي أكاكيفتش، بعدما جاءه بيتروفتش، أخيرا، بالمعطف. جاء به في الصباح، بالضبط قبيل الوقت الذي كان على أكاكي أكاكيفتش أن يذهب فيه إلى الإدارة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *