تندرج بعض الأحداث الكبرى من تاريخ بلادنا في مقررات كتب التاريخ، وتحضر مؤثرة في وعينا الجماعي والفردي، رغم النقائص والأغاليط التي اكتشفنا أنها ترافق تلك النصوص، مذ بدأنا نعي وننفتح على مصنفات وكتابات من مشارب ومقاربات شتى.

وقد كان لمعركة “وادي المخازن” وقع كبير علينا ونحن صغار، وما زالت تحضر بثقلها كلحظة انتصار مهيب في وجداننا الحضاري وثقافتنا التاريخية.

المغرب الأقصى.. أرض الأحداث العظمى

تاريخ المغرب الأقصى حافل بالأحداث التاريخية والملاحم البطولية التي “تطرّز سطوره، وتـتوّج هامته، وتملأ صحائفه”[1]، وتجدد فينا وهج الافتخار بلحظات الانتصار التي حققها أجدادنا. وإن انصرام 444 سنة على حدث معركة الملوك الثلاثة يحفز القارئ على العودة إلى مصادر المرحلة ومراجع أخرى أرّخت لها مستندة إلى أرشيفات أجنبية ورسمية -مخزنية وغيرها- لتعزيز رصيد الـمعطيات عن الواقعة، مستلًّا الـعبر والأسئلة من بين صفحات التمجيد وعبارات الانبهار.

نقدر من خلال ما أتاحته المادة الـمصدرية، وعن قناعة مصدرها وطنية أصيلة وموضوعية علمية؛ أن معركة وادي المخازن تتبوّأ موقع الصدارة ضمن ملاحمنا التاريخية العظمى التي شهدتها أرض المغرب الأقصى منذ الفتح الإسلامي، وهي المعركة الوحيدة التي تستحق التقدير والتمجيد.

وادي المخازن.. تحرير الثغور وحماية الملة والدين

حققت المعركة التي يصفها المؤرخان عبد العزيز الفشتالي ومحمد الصغير الإفراني بـ”الغزوة الكبرى” غايات ونتائج لم يسبق أن حققتها معركة قبلها فوق تراب المغرب، لاختلاف الظروف والسياقات، ووطأة التحديات. فالـمرابطون خاضوا عشرات المعارك التي طهروا بها أرض المغرب من الكيانات الإقليمية السياسية ووحّدوا المغرب الأقصى لأول مرة في تاريخه، وكافح الموحدون على أكثر من جبهة لتوسيع نفوذ دولتهم لا سيما في عهد قائدهم العظيم عبد المؤمن بن علي الكومي وحفيده السلطان الـمظفر يعقوب المنصور، وقادوا معارك ضارية في الداخل والخارج والأندلس، ولـم يتوان المرينيون عن صدّ غارات خصومهم في المغرب الأوسط وأعدائهم الإيبريين، فضلا عن معاركهم الأليمة ضد أبناء عمومتهم الوطاسين في آخر عهد دولتهم، إلا أن السعديين الذين استهلّوا توطيد دعائم ملكهم بسلسلة من المعارك اللاهبة في سوس ودرعة وشياظمة وحاحا، تارة ضد الخونة وأخرى ضد القبائل المتمردة وثالثة ضد البرتغاليين، وتمكنوا تحت قيادة الجد المؤسس عبد الرحمن الزيداني وولديه السلطانين الشجاعين أحمد الشيخ

لم يكن لهذه النتائج الباهرة أن تتحقق لولا ما تضافر من عودة وجودية لقيم البطولة والرجولة والوفاء لحماية الأرض والعرض، والإنصات للعلماء وتقدير دورهم الكبير في التعبئة الوطنية والمشاركة البطولية في أرض المعركة، الذين ما إن تناهت إليهم أخبار زحف الجيوش البرتغالية الغازية صوب القصر الكبير واحتلالها أصيلة وطنجة قبل ذلك، ووصول رسالة السلطان عبد الملك؛ حتى قاموا بدور التأطير الديني والتحفيز للعامة وتحميس المتطوعين لجهاد النصارى، قبل وصول طلائع جيش أحمد السعدي من فاس وأخيه عبد الملك من مراكش، وتولى جناح الميسرة في المعركة الشيخ الفاضل العامل المناضل أبو المحاسن يوسف الفاسي القصري الذي “أبلى فيها بلاء حسنا” بتعبير ابنه العلامة أبو حامد الفاسي في “مرآة المحاسن”[3] (ص147)، ولولا ما كان من الاصطفاف المجتمعي لتجاوز آثار حروب الاستنزاف التي أخلّت بالتوازن الجغرافي والبيئي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي بمغرب أوائل القرن الـ16.

لقد جسّدت وادي المخازن أنبل لحظات قابلية المغاربة للتآزر والتعاون مع من يتوسمون فيه الخير لحفظ الأوطان، وأعطت رسالة مفادها أن المغرب يمرض ولا يموت، دافع بالنار والحديد عن الأندلس منذ 1086 في معركة الزلاقة الخالدة، وجدّد أركانها ونهض بعمرانها بعد معركة الأرك الفاصلة سنة 1195، ووظف إيجابا طاقات الأندلسيين الموريكسيين[4] بإشراكهم في معركة وادي المخازن 1578، ثم عاد ليدافع باستماتة وبسالة عن ترابه وشعبه وموريسكييه ضد الزحف المسيحي بقيادة حفدة ملوك قشتالة وليون ونافار الذين أغاروا على ممالك الأندلس بعد نهاية حكم ابن أبي عامر وسلالة بني أمية، وامتد تسلطهم على ثغورنا البحرية الشمالية والجنوبية، مستغلين صراعات البيت الوطاسي وهشاشة المرينيين؛ إلا أن الشرفاء السعديين وقفوا جدار صد منيع ذهب بأحلامهم وسفّه مشروعهم، وانتصب أحمد المنصور السعدي[5] سلطانا مهابا حائزا الشرعية الميدانية والدينية والسياسية لقيادة دولة جديرة بالتقدير.

معركة وذكرى مطوقة بالأسئلة والعـبرة

ولأن الذكرى تخلق شغب السؤال وقلق البحث الدائم عن الأسباب والتأثيرات الداخلية والخارجية، والملاحظات المنهجية، فإن استحضارنا لانتصار المغاربة في معركة وادي المخازن بالمحاذاة من مدينة القصر الكبير، يستدعي ما يأتي:

أهمية وقيمة الاستفادة مما لدى الآخر من تقدم فكري وعسكري وتنظيمي؛ يساعد على استيعاب شروط السياق التاريخي والحضاري لإحراز انتصار أو تقدم، وحالة عبد الملك السعدي وأحمد بمقامهما في الدولة العثمانية طوال سنوات، واستنصارهما بالباب العالي وبقائهما على اتصال مع ما يطرأ في شبه الجزيرة الإيبيرية؛ جديرة بالانتباه والتقييم.

رغم وجود صراع سياسي على الحكم بين الإخوة والعمومة السعدية، فإن ذلك لم يحل دون لمّ شتات الطاقات العسكرية وتحفيز المتطوعين المغاربة والعلماء، لصدّ القوات البرتغالية الغازية، وإحراز انتصار ساحق ظل يحفظ هيبة المغرب في غرب المتوسط حتى حرب إيسلي سنة 1844، التي كشفت عورة المخزن المغربي وأنهت فزاعة وأسطورة “الجيش المغربي الذي لا يقهر”!

قضت حكمة الله أن يستشهد عبد الملك المعتصم بالله الذي سبق أن خاض أزيد من 24 معركة في سنتين ضد ابن أخيه الخائن محمد المتوكل[6] ليستفرد أحمد المنصور بعرش الدولة السعدية “على رأس الثلاثين من عمره” بعبارة المؤرخ الفشتالي[7]، مستندا إلى شرعية الإنجاز العسكري وطرد العدو الصليبي والنسب الشريف؛ (قضت هذه المشيئة الإلهية هذا الأمر) كي لا يحدث النزاع على السلطة، لأن وحدة المغرب السياسية والمذهبية والدينية والجغرافية تضرّ بها الخلافات الداخلية على الحكم، ويضعفها تعدد رأس الهرم!

لم تغفر ألمانيا وإسبانيا[8] وإيطاليا والفاتيكان للمغرب إذلاله التاريخي لهم، في شخص دولة البورتقيز/البرتغال التي ساندوها بالمال والجند والسلاح للفتك بالمغرب وتمهيد احتلاله الكلي، وظلوا يكنّون العداء ويتحرشون بسواحله إلى مطلع القرن الـ20.

كما تستدعي 4 قرون ونصف التأمل في أوجه القصور الإستراتيجي الذي رافق انتصارنا في معركة وادي الـمخازن، والتساؤل عن سرّ عدم انتهاز السلطة السعدية سياق الانتصار لتحرير مدينة سبتة[9] التي احتلها البرتغاليون سنة 1415: ما الذي أبطأ بهم عن الالتفات إلى هذا الذي ما زال يجرح كرامتنا وهيبتنا وجغرافيتنا ومغربيتنا إلى اليوم!؟ لعلها ثورة ابن أخيه الأمير داود بن عبد المؤمن في فاس وانتقالها إلى سوس، والانشغال بتخفيف حدّة الدعم العثماني للمتمردين في الداخل المغربي، والعجلة لأخذ البيعة الشرعية في فاس ومراكش، وتثبيت أركان الـملك.

ثم؛ كيف نفسر عدم إقدام أحمد المنصور الذهبي على تأسيس أسطول وقوة بحرية في البحر الأبيض المتوسط مباشرة بعد معركة وادي المخازن واستجلابه لذهب بلاد السودان بعد الحملة الشهيرة سنة 1589؟ أين ذهبت الثروة الذهبية؟

كيف فات العقل المغربي أن يستوعب تحولات ميزان القوى الذي جعل المحيط الأطلسي واجهة نفوذ أممي جديد وطريق القوة الاقتصادية الصاعدة؟ كيف فاته الأخذ بالصناعة الثقيلة والاقتصار على صناعة السكر والنحاس والملح؟

ومع ذلك، تظل معركة وادي المخازن شامة في جبين تاريخ الغرب الإسلامي، ونقطة ضوء في دائرة الظلام الحالك الذي كان يحيط بالمغرب الأقصى، تدارك بها المغاربة مصيرا لم يكن يعلم به إلا الله، وأعطت للدولة السعدية قوة وهيبة في جوارها ومحيطها الإقليمي والدولي.

ومحمد الأعرج؛ سيكونون على موعد مع التاريخ في منطقة ظلت خارج نطاق سيادتهم سنوات طويلة، وشاء الله أن لا يحوزوها إلا تحت أسنّة الخيل وتبادل البارود وصليل السيوف بعد الانتصار الكبير في معركة وادي المخازن التي كان من نتائجها:

انتصار عظيم على أعظم مملكة في غرب البحر الأبيض المتوسط، وقتل رمزها السياسي (سباستيان).

تحرير الثغور الـمحتلة وإجلاء العدو، ما خلا سبتة ومليلية وبعض الجزر.

وقف مدّ الحملة الصليبية[2] التي كانت تسعى لتنصير المغرب واقتحام أفريقيا.

تعزيز هيبة المغرب الدولية وتلقي السفارات والتهاني من لدن كبريات الدول في القارة الأوربية.

تحييد الأشقاء العثمانيين من معركة كسر العظام واشتهاء أرض المغرب، والتأسيس لمرحلة جديدة عنوانها رابح-رابح، ومطبوعة بالود والتبادل الدبلوماسي.

تتويج سلطان منتصر بشرعية الجهاد ملكا على المغرب بمبايعة قادة الأجناد والشرفاء والعلماء من أرض المعركة الحامية.

عدنان بن صالح -كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *