بنيّة طيبة وباتجاهات سليمة؛ يمنع الكثير من الآباء والأمهات أبناءهم الشباب والشابات من الكثير من الأمور التي كانوا هم بأنفسهم يفعلونها في فترات شبابهم. وعندما يكبرون، بدوافع عديدة -منها “التدين والخوف وحب التملك والاستبداد“- يحاولون بكل الطرق منعهم منها، رغم أن الكثير منها مباح. ولكن لكي يبقى شكلهم الاجتماعي زاهيا، ومنظرهم العائلي مثاليا؛ يمنعون أبناءهم من تلك الأمور، وقد ظنوا أنهم أحسنوا صنعا حينما كبحوا جماح طاقاتهم الشبابية قسرا.

بينما ستبقى هذه الرغبات كامنة في أعماقهم، وستخرج بأشكال أخرى “كالغضب والتمرد والكراهية والانتقام اللاإرادي”، وهي أشكال يردد بسببها بعض الآباء والأمهات دائما هذه الجملة “لماذا ابني متغيّر عليّ؟ ولماذا بنتي لا تسمع كلامي؟)، وغيرها من المظاهر الأخرى؛ تمهيدا لخروجها في ثوبها الحقيقي في إحدى محطات الحياة اللاحقة، حينما تُفك العقد، ويتحرر الشخص من أنا المراهقة والبحث عن رضى الآخرين، ويصل إلى مرحلة التصالح مع ذاته بعد اجتيازه لاختبارات تمحيص الحياة، فيتساوى حينها عنده من رضي ومن غضب، ويعمل كما قال أهل مصر بمبدأ “كل واحد ينام عالجنب الي يريحوا”.

صدّقوني، هذه المقدمة ليست لأهداف إثارة العقوق أو إيقاظ التمرد بقدر ما هي محاولة لفهم مرحلة المراهقة، وتقريب الفجوة بين الآباء والأبناء من خلال فهم حماسة الشباب والشابات وتطلعهم للحياة، فهم يشبهون في نظرتهم لها ذلك الشخص الذي اقتنى هاتفا جديدا، أو اشترى سيارة جديدة، أو سافر إلى مكان جديد؛ فتجده يتأمله مُنبهرا طوال الوقت.

فبعد مرحلة الطفولة البريئة تأتي مرحلة المراهقة التي يُستهدف فيها الشخص من كل مكان بشكل سريع رهيب، حيث يمضي العقل والقلب والجسد والنفس في نمو متسارع يجعل الشخص أمام صراع الشهوة والشبهة، وصراع إثبات الذات أمام الآخرين، وصراع فهم تطورات الجسد، ولذلك يقال:

“يسقط الإنسان أيام المراهقة كثيرا بسبب أنه لم يحفظ أبعاد جسده الجديد عليه كليا”.

وفي ظل الأجواء المشحونة بطاقة الشباب الوثابة وفي ظل نقص الوعي؛ ما المانع لو أطال الشاب شعره ولو قصت الفتاة شعرها أو رقصت الرقصة التي تريد طالما أن الأمر في إطار المباح (في بيتها) وطالما أن لديهم هذه الرغبة؟ فلماذا يمنعون منها لتبقى كما يُقال “حبة في الرأس لم تُطحن”؟

ولا بأس في هذه المرحلة من استمتاعهم بشيء من الموسيقى التي تروق لهم، وتناول الوجبات التي يريدون بدون تهديد بالمنع خوفا عليهم من السمنة، والاستمتاع ببعض الألعاب الإلكترونية مع أصدقائهم ولو عن بُعد، وغيرها من الأفعال والأقوال المتاحة التي يعبرون فيها عن آرائهم بالإيجاب أو السلب، ويُعربون فيها عن سعادتهم أو غضبهم أو حتى امتعاضهم في إطار الحرية المُنضبطة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم “لا ضرر ولا ضِرار”، وكما يقال “أنت حُر، ما لم تضُر”، وكما قيل “لا تُكرهوا أولادكم على آثاركم ، فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم”.

وبالتأكيد، لا أحد سيرضى بقبول الخطيئة، ولكن هذه أقوال وأفعال في إطار الإباحة المُنسجمة مع متغيرات العصر وتحولات الحياة، فالزمن لم يعد كما كان في الأجيال السابقة، والعولمة غزت العالم، وجعلته قرية صغيرة يواجه فيها الشباب والشابات -بكافة درجاتهم العمرية من الـ40 فما تحت- الكثير من الانفتاح الإعلامي الذي غيّر خارطة التوجيه، وفرض على الآباء والأمهات إيجاد أساليب تربوية مختلفة تُبنى في أصلها على منح الشاب أو الشابة الثقة الكاملة بتقوى الله في أفعالهم وأقوالهم كحل أخير، إذ لا يمكن للأبوين المراقبة الدائمة أمام طوفان التقنية وسونامي العولمة الذي يفرض على الجميع -بما فيهم الأبوين أنفسهم- أن يُطبق الحديث النبوي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئُل عن الإحسان “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، رواه البخاري.

ومع الزمن تبدأ هذه الرغبات الكامنة في التفكك، حينما يبدؤون بالتعبير عنها، وحينما يشرعون في تلبيتها رغبة تلو أخرى، فإنهم يسافرون ويأكلون ويشربون ويلبسون ما يريدون وينامون بالطريقة التي تروق لهم، ويُعبرون عن آرائهم، وينطلقون يطحنون الحبة تلو الأخرى، وينزلونها من رؤوسهم كالماء المنهمر، وكلما استجدت رغبة كانت رحاهم جاهزة لدرجة أنهم شرعوا يربون أبناءهم وبناتهم بطريقة أخرى تحمل مبدأ الأريحية والمكاشفة بحب والتفهم بمودة، وتتضمن ترك الكثير من الخيارات أمامهم لكيلا تبقى في نفوسهم عُقد خالدة، ورغبات مُباحة مكبوتة تخرج فيما بعد بأشكال أخرى قد لا تحمد عقباها.

حمد عبد العزيز الكنتي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *