الفلسفة تثير إعجاب الكثيرين، إنها تمارس عليهم نوعا من السلطة الروحية والانجذاب بسبب التعبيرات الفلسفية المقعرة والشطحات اللغوية ولعبة التأويلات التي لا تنتهي وطابع الغموض الممزوج بلذة الاكتشاف. هناك فعلا حلاوة وطلاوة في النص الفلسفي الغربي يشدان اهتمامك؛ فتتحول القراءة إلى متعة عقلية؛ لذلك هي بمثابة رياضة عقلية.

شخصيا قرأت الكثير من المؤلفات الفلسفية؛ لكن في كل مرة لا أخرج بشيء. فهي مجرد تكهنات spéculations؛ كل أطروحة تلغي أختها؛ ومجال التأويل واسع جدا بحيث يمكنك أن تقول أي شيء فيصبح فلسفة. أقرأ هذه الأيام مثلا بعض مؤلفات Rémi Brague؛ فأجدها في كثير من الأحيان مجرد تاويلات مضحكة. يقول مثلا إن المسيحية ديانة العقل وأول من دعا إلى العقل؛ لماذا؟ لأن في الإنجيل “في البدء كانت الكلمة” logos؛ ثم يبدأ في التأويل وكأنه يحلل نصا شعريا سورياليا. كل ما تعرفه عن غياب العقل في المسيحية وعن ولادة العقلانية في أوروبا القرن الثامن عشر يصبح أضحوكة.

الفلاسفة الغربيون لديهم قدرة بارعة على التأويل والمماحكة والتحذلق والمحاججة؛ لكن وراء ذلك كله يوجد فراغ.
يعجب الكثيرون بالفلسفة لأنها عندهم تطرح الأسئلة ولا تقدم أجوبة جاهزة؛ فالانبهار إذن بالأسئلة لا بالاجوبة. ويعجب الكثيرون بها لأنها تطرح أسئلة عن الماوراء؛ يعني عن الغيب. ولكن عندما تجد مسلما يعجب بها لذلك الغرض تصبح المشكلة عبارة عن أزمة معرفية؛ لأنه ينبهر بسؤالات الفلسفة لا بإجابات القرآن. حين ترد عليه بذلك يقول لك إن الفلسفة ليست هي الدين؛ كأن الدين الإسلامي غير مقنع ولديه أجوبة “جاهزة” بينما الفلسفة مقنعة لأنها لا تقدم أجوبة جاهزة. لا يفهم أن الفلسفة دين من خرجوا من الدين والدين فلسفة المؤمنين؛ وأن عملية التفلسف وضعها القرآن؛ لكنه قدم أجوبة لمن يريدون أن يصلوا بالوحي وفتح الطريق أمام السؤال لمن يريدون أن يصلوا بأنفسهم؛ غير أن الهدف في الإسلام هو الوصول؛ بينما الفلسفة الغربية ترسم لك الطريق لكي تمشي بلا نهاية. هنا تفلسف له أصول؛ وهناك تفلسف لا أصول له؛ ومن حرم الأصول حرم الوصول.

الدكتور إدريس الكنبوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *