تواصل رواية لُعبة بوح بالجروح للروائية خديجة الزومي، شد إهتمام الادباء والقراء في مغارب الأرض ومشارقها، إذ بعد العديد من القراءات الادبية في هذه الرواية الناجحة، جاء الدور على قامات أخرى من المغرب والمشرق العربي لتقدم قراءاتها العميقة في رواية بقلم سياسية ونقابية وتربوية، تركت سلطة السلط التقليدية جانبا وتسلحت بسلطة الأدب في الدفاع عن قضية المرأة العاملة والكادحة وهي تواجه الظلم والقهر من أجل العيش.
بعد قرءاة عميقة لرواية لعبة بوح بالجروح، قدمتها الروائية الفلسطنية إيمان الناطور، جاءت قراءة شاملة لهذا العمل الادبي المتميز، قدمها بكل سخاء الشاعر والاديب المغربي الكبير الدكتور مراد القادري، وهي القراءة التي تنشرها جريدة le12.ma، كاملة إحتفاءا برواية السياسية / الأديبة الاستاذة خديجة الزومي.
روايةٌ لثلاثِ سيدات
لُعبة بوح بالجُروح، هي الرّواية الأولى للأستاذة خديجة الزومي، التي تكرّسَ اسمُها كفاعلةٍ سياسية ونقابية من الدّرجة الرفيعة، إذْ لطالما تابعْنا مرافعاتِها في البرلمان بغُرفتيه، وشدّتنا سِجالاتُها في حوْمة الفِعل النّقابي والسّياسي والنسائي. فهي، كما يعرفُ الجميع شخصيةٌ عمومية، بنَت حضورَها في المجال العمومي المغربي بما تراكم لديها من خِبرة وكفاءةٍ يُقرّ بها كلّ من اقترب منها، سواءٌ اتّفق مع اختياراتها أم لم يتّفقْ….
هذه السّيدة القادمة من الحاضرة العلمية، والتي ملأت الدّنيا وشغلتها في مجالات السياسة والعملين النقابي والنسائي، من خِلال ما نعرفُه عنها من انحياز لحقوق الشّغيلة وانتصارٍ لقضايا المرأة، هل بمقدُورها أنْ تشغلَ الناس بعملٍ أدبي أول، تُدشّن به مسارًا جديدًا في حياتها، ألا وهو الكتابة الروائية؟
ذلكم، كان هُو السؤال الذي خالجني، للوهلة الأولى، وأنا أتصفّحُ هذه الرواية، أي هل ستنجحُ خديجة الزومي في تحْريك مشاعرنا وجذْب انتباهنا لعوالم هذه الرواية ولشخُوصها كما تفعل عندما تعتلي منبر البرلمان، أو عندما تترافع حول قضايا العُمال وحقوق المرأة؟
لنؤجّل الجواب عن هذا السؤال إلى آخر هذه الورقة، ولنذهَب في رحلة قصيرة لاستعراض مسارات هذا البوْح الرّوائي والحكائي الذي تقترحُه علينا الكاتبة الأستاذة خديجة الزومي.
رواية ” لعبة بوح بالجروح” هي روايةٌ لثلاثِ سيدات: حياة، أم هاني وأحلام، لذلك لا غرابة أنْ تعمدَ الكاتبة إلى تشكيل الرواية من ثلاثة فصول، بحيث تستحوذُ كلُّ بطلة على فصل. فالفصل الأول يخصّ “حياة”، والثاني يخص “أم هاني” والثالث يخص “أحلام”. على أنّ ذلك لا يعني أننا أمام فصولٍ معزولة عن بعضها، أو شخصيات متنافرات فيما بينهن، بل إنّ الكاتبة تنجحُ في اختلاقِ المسالك بين هذه الفصول، وإيجادِ القرابات الممكنة بين البطلات الثلاث وردْم الهوّة بينهن، مُعيدة بذلك ربط لُحمةِ الرواية وصوغ بِنائها في سردٍ منسجم متناغم، هدفُه الكشف عما تعيشُه المرأة المغربية من مِحن ومتاعب وما تكابده من عُنفٍ وقهر اجتماعي واقتصادي وسياسي.
تَحرصُ الكاتبة على بدْء كلّ فصل من الفُصول الثلاث بتقديم الشّخصية المحورية، التي ستقودُ الحكيَ خلال الفصل، ساعيةً بذلك إلى ربح الوقت واستدراج القارئ بسرعة إلى عوالم البوح الروائي. فالفصل الأول يبدأ هكذا:” شبّت حياة ” ما يعني أن الحكيَ ستقودُه حياة، أمّا الفصل الثاني؛ فينطلقُ على الشكل التالي: ” عاشت أم هاني”، فيما الفصل الثالث، فتفتتِحُه الكاتبة بهذه الجملة: «أمال لم تستطع… “.
إنه الانحيازُ الصّريح للمرأة، والسّعيٌ نحو تبويئها الواجهة، ومنحِها دورَ البطولة، و إعطائها الحقّ في البوْح حتى لو تعلّق الأمر باسْتعراض الجرُوح و العذابات و الآلام، كما هو الحال مع بطلات الرواية، فالأولى (حياة)، فتاة من بيتٍ محافظ، هي الأنثى الوحيدة وسط أربعة ذكور، فشلوا في دراستهم و انصرفوا للعمل إلى جانب والدهم في التجارة، فيما هي اختارت أن تقفَ في وجه العقلية التقليدية و المحافظة المهيمنة داخل أسرتها، التي كانت تستكثرُ على الفتاة أن تواصلَ تعليمها، و تُحقّق النجاح تلو الآخر، و هو النجاحُ الذي كان تقابلُه جملة الوالد التالية ” بما أنك تفوّقت لا بأس أن أتركك تتابعين دراستك السنة المقبلة بمشيئة الله، ريثما يظهرُ ابن الحلال الذي يستحقك، فمآل الفتاة بيتها و العناية بأبنائها….” على أنّ حياة تُقرّر عدم الاستسلام لهذا القدر الذي رسمَه لها والدُها، و تستمرُّ في مسيرة نجاحاتها الدراسية و تُتوجّها بشهادةٍ رفيعة من مدرسة عليا، لتلتحقَ بإحدى الشركات للعمل بمدينة الدار البيضاء، التي ستستقرّ بها، وهناك سيرتبطُ مصيرها بجارِها في العمارة، الذي سيطلبـُها للزواج، ليبدأ فصلٌ طويل وجديد من المعاناة مع زوجٍ سكّير مُختص في النّصب على النساء، سيُذيقها صنُوف العذاب و الإذلال، فيما هي لنْ تقدِرَ على فكّ الارتباط به، و طلبِ الطلاق منه، وذلك بسبب الضغط الذي مارسه عليها والدُها، الذي ما إنْ علِم بكوْن ابنته حاملا، حتّى قال لها: ” فكّري في كلّ شيء إلا الطلاق يا بنتي، لأننا سنُصبح على ألسنة كلّ الناس، وسيتقوّلونا فينا، إنه عيبٌ كبير أن ترجع العروسة في شهورها الأولى، سيجتهدُ الناس في البحثِ عن الأسباب، و أنا يا بنتي لا أملكُ إلا سُمْعتي و لن أترك أحدا يلوّثها” ص 28. أمّا الوالدة، والتي من المفترض أن تتفهّمَ الجحيم الذي باتت تعيشُه ابنتها حياة مع شريكٍ لا يقدّر الرباط الزوجي المقدّس، ولا يُولي العناية لمسؤولياته كزوج، فكانت تقول: “يابنتي يجب أن تتجلّدي بالصبر، فبنت الأصول تصبر وتحمد الله على مكتوبها، فكل الرجال سواسية، ولكن سيدة السيدات هي التي تقدر أن تحافظ على بيتها” ص 43.
في مِحنتها هاته، لم يكنْ أمام “حياة” سوى الاحتماء بذكرى ذلك الشاب الفاسي، “سعيد” ابن الجيران، الشاب الكثير النظرات، القليل العِبارات، والذي كان قلبها يخفقُ له كلما رأته في حوْمتها بفاس، والذي ستلتقي به لاحقا في الرباط خلال فترة الدراسة الجامعية، لكنه ” غاب و لم تعرفْ ماذا ألمّ به وكأنه تبخّر في الهواء… لم تستطع أن تعرف عنه أي شيء، عموما هو الوحيد الذي استرعى اهتمامها و لفت نظرها، فرسمت صورته في ثنايا أحشائها خوفا من أن يكتشفها أحد، فتحولت إلى وشم على شرايين قلبها، ترجع لذكراه كلما ضاقت بها السبل” ص 35 .
إلى جانبِ احتمائها بذِكرى ابن الجّيران “سعيد”، الذي غاب في الزحام، كانت “حياة” تحتمي، كذلك، بزميلةٍ لها في العمل، اسمُها “أم هانئ”، حيث كانت تحكي لها معاناتها الأليمة مع زوج يُمعِن في ضربها وإهانتها وتعنيفها، فكانت “أم هانئ” الصديقة التي تحاول أنْ تخفّف عنها، وتقدّم لها الدّعم النفسي، على الرغم من أن “حياة” لم تكن تعلم شيئا عن “أم هانئ” هاته بسبب تكتّم هذه الأخيرة الشّديد عن حياتها الشخصية.
هذه هي أجواءُ الفصل الأول، الذي يقدّم لنا، قصة “حياة”، التي ستفقدُ حياتها وهي تحاول إسقاط جنينها، لتُسلمَ الروح إلى بارئها دون أنْ تنعم يومًا بلحظة فرح، سواءٌ في كنَف والدِها الرّجل التقليدي المحافظ، أوْ في كنفِ زوْجها الرجل السكّير المعربد .
بطلةٌ أخرى
في الفصل الثاني من الرواية، تستقبلُنا بطلةٌ أخرى هي ” أم هانئ”، التي يقودُها الخطوُ نحو منزل “حياة” بعد أن لاحظت غيابها عن العمل لمدة يومين متتالين، لتجدَ نفسها مقابلَ حشودٍ من الناس أمام باب العمارة، وتكتشفَ أن صديقتها قد فارقت الحياة. ليس هذا فقط، بل ستكتشفُ ما هو أفجع، وهي أنّ زوج حياة ليس سوى زوجِها السابق، تقول البطلة الجديدة لهذا الفصل الجديد” وقفت أتأمل الوجوه، فوقع نظري على طليقي، وهو شاحب الوجه يتلقى التعازي من الناس، دارت بي الدنيا وكأني أصبت بصاعقة، كانت “حياة” صديقتي زوجة طليقي الذي عذبني إلى أنْ أديت ثمن طلاقي، أخذَ مالي وباع حِليَتي وأساوري بعد أن سرقها ولوث سمعتي بالأكاذيب، عشت معه سنة لم تكن من عمري، ولوث حياتي حتى أصبحت قطعة من الجحيم، كيف لم أعرف اسم زوجها؟ كيف لم ألتق معه وكنتُ أوصلها في الكثير من المرات؟ لو كنت أعرف هل كنت أقدر أن أقف في طريقه؟ (ص 49).
تلك بعضُ الهواجس التي خطرت ببال “أم هانئ” وهي تكتشفُ أن الكأس التي شربت منها هي نفسُها التي شربت منها صديقتُها “حياة”، وأنهما معًا ضحيتان ليس لنفس الشخص، بلْ لنفس العقلية الذكورية التي ما زالت حاضرة لدى بعض الرجال، والتي تُجهزُ على حقُوق المرأة وتسلبُها إرادتها وحريتها، وتضيقُ الخناقَ عليها من أجل قهرها وتمريغ إنسانيتها في التراب.
على أنّ الكاتبة في هذا الفصل الثاني من الرواية، ستعمدُ من خلال بطلته “أم هانئ” إلى أن تقودنا إلى منطقة أخرى من معاناة المرأة المغربية. ويتعلق الأمر بالظروف الصعبة التي تعيشها النساء في العمل، وهو مجال، دون شك، خبرته خديجة الزومي بشكل جيّد من خلال مرافقتها ومصاحبتها لأوضاعهن، سواء العاملات منهن في القطاع العام أو الخاص، وهو ما سمح لها بأنْ تعكس ذلك بجلاء في هذا الفصل من خلال بطلته ” أم هانئ”، التي ستقرر مغادرة الشركة التي كانت تعمل بها إلى جانب “حياة”، بعد أنْ قام المدير باستدعائها إلى مكتبه، وسلمها ظرفا به مبلغٌ من المال، ودعاها إلى مغادرة الشركة واعتبار نفسها في حالة تسريح. لتخاطبه على النحو التالي:
السيد الرئيس، لا يمكنك أن تعاملني بهذا الأسلوب، فنحن بشر، لنا إكراهاتنا و لنا مشاكلنا وآلامنا ولسنا مجرد آلات للإنتاج، وإن كنت تريد الحديث عن التعويض، أظن أنه يجب أن تتذكر أنني مندوبة المستخدمين في انتخابات المأجورين، فئة المهندسين، وأنت من سجل اسمي في اللائحة دون علمي، فقط صدفة. ولم أكن أعرف بأن انتخابات الأجراء قد جرت، عرفت حين اتصلت بي إحدى النقابات لتقنعني أـن أصوت لفائدة لائحتها، وهنا يقول القانون قبل أن تطردني يجب أن تأخذ الموافقة من مفتش الشغل المشرف على المنطقة، وإن حصل واتفقنا جميعا، فالتعويض يُحسبُ على أساس أن يضرب في اثنين، ورمت الظرف فوق مكتبه وخرجت” ص 65.
عند هذا الحدّ، يمكنُ لي أنْ أوقفَ عمليّة الحكي، ولو مرحليا، لأُدليَ بملاحظة مركزية، وهي أنّ الكاتبة خديجة الزومي وظّفت صوت بطلتها “حياة ” في الفصل الأول من أجل التعبير عن مواقفها وقناعاتها بخصوص التعسف الذي تلقاه المرأة المغربية في مُواجهة السلطة الاجتماعية للأب والزوج، وهو ما يندرجُ ضمن نشاطها السياسي، بصفتها فاعلة سياسية وعُضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال ورئيسة لمنظمته النسائية، فيما قامت في الفصل الثاني، بتوظيف صوت “أم هانئ” للكشْف عن القهر الاقتصادي الذي تعيشُه المرأة المغربية داخل سوق الشغل، وهو ما يندرجُ، هذه المرّة، ضمن نشاطها النقابي المعروف داخل الاتحاد العام للشغالين في المغرب.
بناءً عليه، يمكن لنا القول إنّ الروائية لا تفوت الفرصة، لتمّرر، كلما أتاح لها خيطُ السّرد وسياقاته، بعضًا من مواقفها التي نجدُها في مدوّناتٍ أخرى لخديجة الزومي، الناشطة النسائية والسياسية والنقابية، كما في هذا التعبير الذي نعثرُ عليه في الصفحة 60 من الرواية في وصف حال رجال التعليم” كم كان حلم الفتيات كبيرا أن يتقدّم لخطبتهم رجل من رجال التعليم، فهم النخبة و أصحاب مدخول محترم، و لهم وضعية اعتبارية جيدة داخل المجتمع و ليس الحال كما نرى الآن، حيث تكالبت الدنيا عليهم، فأصبحُوا في عراكٍ دائم من أجل لُقمة عيش، و صاروا يلهثون وراء ترقيات معلّقة، إلى أن سمّوا أنفسهم ضحايا الأنظمة الأساسية و أصحاب الزنازين من تسعة إلى عشرة، و الذين لم يسبقْ لهم…. و غير ذلك من الأسماء التي تحيل على معاجم البؤس و التشنج..”
في ذات الفصل، سنكتشفُ أن “أم هانئ” وتحت تأثير زميلة لها في العمل اسمها ” أمال” والتي ستكون بطلة الفصل الأخير من هذه الرواية، ستُصبِح ذاتَ نشاطٍ وحضور نقابيٍّ ملفت للنظر، و أنها ستصير ملازمة لصديقتها الجديدة في كافة أنشطتها و تحرّكاتها داخل مقرّات النقابات وجمعيات حقوق الإنسان ومراكز الاستماع للنساء المعنّفات، و بات سهمُها يكبرُ داخل الشركة، بين صفوف الموظفين و في أوساط العمّال.
خانت القضية
غير أنّ هذه الممارسة المدنية الشّريفة و النبيلة ستُضرب في مقتل، عندما ستُتّهم “أم هانئ” بأنها خانت القضية، وأنها عَمِيلة للإدارة، وذلك عندما شُوهدت جالسةً في مقهى عمومي برفقة رئيسها في العمل “سعيد” والذي يوجد، بالنسبة للعمال، في الطرف الآخر بصفته ممثلا للإدارة، غير مُدركين بأن “سعيد” هذا، ليس سوى ذلك الشاب الفاسي الذي أحبّته صديقتها “حياة”، و أنّ الصُّدف نجحَت مرّة أخرى في وضْع “حياة ” على طريق “أم هانئ”، نقرأ ” أما أم هانئ فقد اختلط عليها كلّ شيء، أمر غريب يحبك و ينسجُ حياتها، كلّ كرة تجدُ نفسها تغيّر الطريق واقفة أمام ذكرى حياة، حياة جمعت بين طليقها و رئيسها، وهي الآن تحس بإحساس غريب يسيطر بسرعة كبيرة على حواسها. لماذا أينما أدارت وجهها تجد حياة؟ و كأن حياة لم تولد إلا لتكون خيطا ناظما لقدر “أم هانئ” ص 82 .
على هذا النحو، ينتهي فصل “أم هانئ” التي تغادر الشّركة بغُصّةٍ في القلب والروح لتتزوّج سعيد، وتقبعَ في البيت لتلدَ له الأطفال، فيما زوجُها يُواصل نجاحاته الإدارية، ليصير المدير العام للشركة.
هكذا تُصوّر خديجة الزومي لنا الظروف التي تشتغلُ فيها النساء اللواتي ينْخرطن في العمل النقابي في المغرب، وهكذا ترسمُ نهايتهن الأليمة و الـمُحْبطة، تقول خديجة الزومي عن بطلتها “أم هانئ” في الصفحة 71، “كان حلمُها يكبرُ في الليل و يتبدّدُ في النهار على إيقاع الخيْبات التي تحاصرُ النساء في بلدها، و تأكّدت أنّ الطريق شاقٌ وصعب و كثير النُّتوءات ملتوِ الانْحدارات”.
عرّابة النقابية
في الفصل الثالث، ستطالِعُنا بطلةٌ جديدة هي “أمال”، والتي سبق للقارئ أن تعرّف عليها كعرّابة للعمل النقابي في الشّركة التي كانت تشتغلُ بها ” أم هانئ”، إذ هي من كان لها الأثر الحاسم في حياة هذه الأخيرة، وهي التي استقطبتها للانخراط في مرجل هذا العمل الحارق، الذي قضتا فيه أجمل أوقاتهما، حيث الإيمان المشترك بحقوق العمال، وضرورة الدفاع عن مصالحهم والانتصار لقضاياهم.
وإذا كانت “أم هانئ” تنعمُ، الآن، في بيت الزوجية، فإنّ القدر كشّر عن أنيابه في وجهه ” أمال” المٍرأة المطلقة، والتي لها ولدان، انشغلا عنها بحياتهما الخاصة، إذ نادرا ما يسألان عنها أو عن احتياجاتها المعيشية.
وهاهي، الآن، تَطرُقُ أبواب الشركات، ولا أحد يريد تشغيلها مخافة أنْ تنقّب العمال، وتَحْشِدهم في جبهة ضدّ الإدارة. هنا تستعير مرة أخرى الكاتبة خديجة الزومي القبّعة النقابية لتصف هذه الحالة، قائلة ” أغلب الناس يريدون أن يديروا مقاولاتهم بطريقتهم، وحسب أهوائهم، فمرّة لا يسوّون وضعيتهم بصندوق الضمان الاجتماعي، ومرّة لا يصرحون ببعضهم، وإن صرحوا فإنهم لا يصرحون بالساعات الحقيقية للعمل مما يجعل العامل في الكثير من الأحيان يقضي حياته كلها في العمل ليجد نفسه بدون تقاعد فقط لأنه لم يصل إلى عدد الأيام التي كان يجب أن يعمل فيها.
وهنا يتوقف الأجير ليكتشف أنه كان ضحية مؤامرة بإخراج رديء جدا، كان يعمل طوال النهار وفي بعض الأحيان في اليل، و قد يكون بدأ العمل وهو في العشرين من عمره أو قبلها، ورغم ذلك لم يصل إلى عدد الأيام. ربما أيامهم ليست مما يعدّون، أيامهم ليست كأيام أرباب العمل”. ص 93/94
إنّ هذه الأوضاع هي التي ستدفعُ ب “آمال” نحو التفكير في الهِجرة إلى الخارج عبر قوارب الموت، وذلك بعد أنْ فشلت محاولاتُها في المرور عبر مكاتب الوساطة للتشغيل لكونها غير متزوجة ولا أطفال لها تتحمل مسؤوليتهم، كما أنّ يديها ليستا خشنتين، ولم يسبق لها العمل في الحقول الزراعية. إنها الشروط المجحِفة التي تفرضها هذه مكاتب التشغيل على العاملات الراغبات في السفر. والواقع أنّ الأستاذة خديجة الزومي نجحت، من خلال هذا الفصل، في أنْ تفتح لنا شُبّاكا آخر للإطلالة منه على أوْضاع النساء المغربيات اللواتي يضطَرِرْن، تحت قسوة الظروف الاقتصادية والاجتماعية، إلى ركوب الكثير من المخاطر من أجل الوُصول إلى أحلام الضّفة الأخرى.
ولا غرابة في ذلك، إذْ من المعلوم أنّ الأستاذة الزومي سبق لها أنْ عمِلت مديرة للموارد البشرية بالوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل، أيْ ما يُعرف ب ANAPEC، وهو ما يُؤهلها، عن جدارة واستحقاق، للحديث عن هذه الحالات الإنسانية التي تضطر فيها بعض النساء المغربيات إلى ترك أولادهن و أزواجهن و بيُوتهن من أجل العمل بالحقُول الفلاحية بالجنوب الإسباني.
لكي تحقق “أمال” حُلم الهجرة، باعَت أثاث شُقتها وحملت حِلْيَــها إلى صديقة الأمس “أم هانئ” و باعتها لها بثمن بخس، ووضعت كلّ ما لديها في صرّة داخل ملابسها الداخلية، و ماهي إلا ثلاثة أيام، حتى كانت على ظهر ” الزودياك” لتعيش تجربة غريبة عليها، هي و عددٌ آخر من النساء، من بينهن صَبِيّة صغيرة اسمها شامة، فرّت من زوج أمها الذي كان يغتصبها و يضرب والدتها و يعنّفها، فلم تجد سوى الهرب، خاصة بعد أن أصبحت حاملا من زوج أمها…
رواية “لعبة بوح بالجروح” هي روايةٌ نسائية بامتياز، ليس لأن كاتبتها امرأة، و لا لأن بطلاتها الرئيسيات نساء:
– حياة، التي لم تستمتع بالحياة؛
– أم هانئ، التي لم تهنأ سمعتها من القيل و القال؛ و اضطرت إلى أن توقف مسارها المهني الناجح، و تقبع في البيت ، لخدمة زوجها؛
– أمال، التي ضاعت آمالها في عرض المتوسط، و عادت بخُفي حنين إلى بلدها بعد أن شاهدت الأهوال في الهجرة، و عاشت المحن بين صفوف المهاجرين.
بل هي رواية نسائية، لأنها نجحَت في أنْ تمنح للشخصيات الرئيسية المشار إليهن أعلاه، و لغيرهن من ذوي الأدوار الثانوية، من مثل شامة و بهية… الحقَّ في البوح بجراحاتهن و عذاباتهن و مكابداتهن، نكايةً في الرجل الذي كان له، وحده، الحقُّ في الكلام.
أختم هذه الورقة بجملة ملاحظات:
1/ انخراطُ الإهداء في الجوّ العام للرواية. وهو إهداء بالتثنية و ليس بالفرد. إهداء أول مُهدى إلى الأم، وجاء فيه “إلى أمي رحمها الله” مع تعزيزها بمقولة لابن حزم الأندلسي يقول فيها” لن تتوقّف رسائل الشوق إليك حتى يفنى بي العمر أو ألقاك”. أما الإهداء الثاني، فجاء فيه” لمن ذكّرتني بأحلامي المؤجلة، لمن جعلت أحزاني هديلا، لمن صاغت لآلامي عقد ياسمين ضِماداً”. إن تعيين امرأة لتكون المهدى إليه، و صيغة الإهداء، و هي عبارات شاعرية حيّة وإنسانية، لتأكيد قاطع و رسالة دالة على التقدير والمحبة التي تكنّها الكاتبة لهذا الكائن البشري الذي استدعت أوضاعه الكتابة عنه؛
2/ على عكس ما نراه في بعض النماذج الروائية المغربية، التي عمدت إلى “تذكير السرد”، حيث الرجال هم الأبطال، وهم الذين يقودون عملية الحكي، يعيثون ويتصرفون فيه كما يتصرف الغازي في مستعمرة، قامت خديحة الزومي بتأنيث السرد، وجعل الحكي على لسان نساء بسيطات، ينتمين إلى الطبقة الوسطى، و لسنَ بناتَ ذواتٍ أو أعيان، وذلك في وفاء أصيل، و تماهٍ مع خلفيتها الاجتماعية وقناعاتها السياسية والنقابية المعروفة؛ وكأنها بذلك تمنحهن البطولة التي افتقدنها في الحياة؛
3/ انفتاح الرواية على عالم المرأة من موقع غير رومانسي، غير مهتم بالأبعاد العاطفية أو الحميمية التي تصل المرأة بجسدها ومشاعرها، كما تكرّس في عدد من السرود الروائية المغربية، بل والعربية كذلك، و إنما حرصت الروائية خديجة الزومي على أنْ تكتب متنا يشبه الأجواء والعوالم التي تتحّرك فيها، وتستعيدُ وجوه النّسوة اللواتي تلتقي بهن في الحزب و النقابة و منظمة المرأة، على أنها تقوم بذلك، في احترام لمقتضيات السرد الروائي، وما يتطلبه من مستلزمات فنية و جمالية.
4/ الملاحظة الرابعة بخصوص الراوي في هذا العمل، فالكاتبة عمدت إلى استخدام البطلات كراويات لفصولهن، بحيث تناوبت كلٌّ من “حياة” و “أم هانئ” و “أمال” على رواية الوقائع التي عشناها، كل واحدة من زاويتها الخاصة، واحدة تلو الآخـر، كلّ ذلك جعل الرواية تتأرجحُ بين مِروحة مختلفة من المواضيع و القضايا، حتى و لو بدَت جميعُها تندرجُ ضمن الموقف الرافض للنظام الأبوي، المحارب للفكر الذكوري، المنتشر داخل مؤسسات التنشئة الاجتماعية و في فضاءات العمل، ومقرات الشغل….
سلطة الادب
وفي الختام، يحق لنا جميعا أن نتساءل؟
ما السبب الذي دفع بالأستاذة خديجة الزومي إلى الترافع في قضايا المرأة المغربية عبر بوّابة الأدب؟ هل ذلك يعني عدم جدوى الآليات الأخرى التي بين يديها، و التي درجت على استعمالها كالحزب، النقابة، منظمة المرأة، والبرلمان؟ أم أنها ترى في الأدب سلطة لا تتحقق للسلط الأخرى؟ إذ أنه يمكن من خلال مؤسسة الأدب أن نرسّخ في أذهان القارئ و المتلقي ما لا تستطيع المؤسسات الأخرى تحقيقه؟ فالتغيير الاجتماعي قد يكون أيسر بواسطة الفن والأدب من التغيير عن طريق القوانين و مدونات الأحوال الشخصية.
الدكنور مراد القادري في سطور
مراد القادري شاعر وباحث وناشط ثقافي. من مواليد سنة 1965 بمدينة سلا (المملكة المغربية).
حاصل على شهادة الدكتوراه في الأدب المغربي الحديث، من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، بفاس (2012).
حاصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة (2000)، وحدة «بناء الخطاب الشعري في المشرق والمغربي العربي»، تحت إشراف الدكتور محمد بنيس؛ من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس الرباط.
حاصل على شهادة الإجازة في اللغة العربية وآدابها (1991) من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس الرباط.
حاصل على ديبلوم «الإدارة الثقافية».
مسؤوليات ثقافية
وطنيا
– عضو الهيئة التنفيذية لبيت الشعر في المغرب منذ سنة 2003.
– رئيس بيت الشعر في المغرب ابتداء من 9 يوليوز 2017.
عضو مجلس إدارة «دار الشعر» (المملكة المغربية / إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة).
عضو اتحاد كتاب المغرب منذ سنة 1994؛ ومسؤول سابق بمجلسه الإداري.
عضو المجلس الإداري للائتلاف المغربي للثقافة والفنون؛
عضو الجمعية المغربية للسياسات الثقافية؛ وناشط في مجال السياسات الثقافية.
عضو الجمعية العمومية ونائب رئيس المجلس الفني لمؤسسة «المورد الثقافي».
عضو الورشات الأوربية لشباب ومبدعي حوض البحر الأبيض المتوسط.
مسؤوليات مهنية: – مستشار، مكلف بالدراسات سابقا، لدى السيد وزير التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي؛ – مستشار سابق لدى السيد وزير الثقافة.
إصدارات شعرية: – ديوان «حروف الكف»، دار قرطبة، الدار البيضاء، 1995؛ – ديوان «غزيل البنات»، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2005؛ – ديوان «طير الله»، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2007؛
ديوان «طرامواي» مرسم، الرباط، 2015 .
ديوان «ومخبي تحت لساني ريحة الموت»، مطبعة دار المناهل، 2021
– تُرجم له إلى اللغة الإسبانية ديوانا: «غزيل لبنات» Hilado de chicas و «طير الله» Pajaro de Dios من طرف فرانسيسكو موسكوسو غارسيا، أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بجامعة مدريد المستقلة؛
ترجم ديوانه «طرامواي» إلى اللغة الفرنسية على يد الشاعر والمترجم منير السرحاني وتمّ نشره بدار نشر «لارماتان» بباريس، فرنسا سنة 2016 .
كما تُرجمت قصائده إلى الفرنسية والإنجليزية الإيطالية، وتوجد بعض قصائده منشورة ببعض الأنطلوجيات الخاصة بالشعر المغربي.
إصدارات نقدية
جمالية الكتابة في القصيدة الزجلية المغربية الحديثة، مؤسسة نادي الكتاب بالمغرب، فاس، 2012 ؛
العديد من المقالات والدراسات النقدية حول الشّعر الشعبي والقصيدة الزجلية في المغرب.
مشاركات ثقافية
شارك داخل المغرب وخارجه في العديد من المهرجانات الشعرية والندوات الثقافية، كما حظي بالتكريم والاحتفاء في الكثير من الملتقيات ذات الصلة بالشعر الشعبي (الزجل) تقديرًا لدوره في التعريف به والدفاع عن مشروعية وجوده.