هنالك مثل معروف، يقول فيه أصدقاؤنا الفرنسيون: “لا يجب لعن (أو سب) المستقبل!”. و القصد هو التنبيه إلى عدم إغلاق الباب أمام احتمال تعديل المواقف أو تطويرها في المستقبل، إذا فرضت ذلك سياقات مستجدة. و هذا المثل شائع لدى الديبلوماسيين الذين يتحركون في قلب ديناميكيات نسبية، تتغير بتغير السياقات و التوازنات و المصالح، مما يمكن معه أن تتحول “لا” إلى “نعم”، أو العكس، بشكل غير متوقع. لذا، ينصح الحكماء بضرورة الاستعداد لكل الاحتمالات و السيناريوهات التي قد تكون غير متوقعة، لكن الظروف تفرضها في مستقبل الأيام.
لكن يبدو، للأسف الشديد، أن السيد رمطان لعمامرة، كبير ديبلوماسيي الجزائر، بعيد عن الحكمة التي يحيل إليها المثل الفرنسي، من خلال إصراره على المغالاة في عدد من المواقف، كما لو كان يريد أن تستمر حالة الشرود والفشل التي حشر فيها ديبلوماسية بلاده، إلى ما لا نهاية. و قد تأكد الأمر، من جديد، في جوابه عن سؤال صحفي بشأن وجود وساطة سعودية بين المغرب والجزائر، حيث لم يسع وزير خارجية الجزائر إلى النفي باستعمال عبارة ديبلوماسية عادية و مقبولة، بل لجأ إلى صيغة جاء فيها أن تلك الوساطة ليست واردة “لا بالأمس و لا اليوم و لا غدا”. وهي صيغة استنكارتها أوساط ديبلوماسية عديدة، واعتبرتها تجسد عقلية استعلائية تغيب عنها اللياقة والكياسة. بل، هنالك أقلام اعتبرت أن الجملة تحمل قلة أدب معيبة في حق دولة عربية كبيرة، معروف عنها تاريخيا أنها تلعب دور الأخ الأكبر لكل الدول العربية، بما هو معهود في خادم الحرمين الشريفين و في الشعب السعودي الشقيق، من صادق الحرص على وحدة الصف وخدمة مصالح الشعوب و الدول العربية.
و رغم أن أي جهة رسمية لم تؤكد موضوع الوساطة، إلا أن احتمال وجود مبادرة سعودية، إذا تأكدت، لن يكون ذلك غريبا على القيم و الأخلاق التي تحملها المملكة العربية السعودية. و في هذا السياق، من المؤكد أن بلادنا لم تطلب أية وساطة مع الجزائر، من منطلق أن هذه الأخيرة هي الطرف الذي صنع التوتر و هي من عليها أن تعود عن غيها و تصحح سلوكها لتعود المياه إلى مجاريها بشكل طبيعي. و يبقى أن المملكة المغربية لا يمكنها إلا أن تقدر عاليا ما تحمله المملكة العربية السعودية، قيادة و شعبا، و معها دول مجلس التعاون الخليجي، من أخوة صادقة للمغرب وحرص كبير على مصالحه و وحدة أراضيه. كما تقدر بلادنا شهامة الأشقاء الخليجيين و سعيهم، في السر و في العلن، و بمبادرات تلقائية، إلى تحقيق التقارب بين كل الدول العربية التي بينها علاقات متوترة، بدل الصمت أمام سياسة التحريض والكيد التي تعتبر تخصصا حصريا للعقل السياسي الحاكم في الجزائر حاليا، لا تنازعه في ذلك أية دولة في العالم العربي و إفريقيا.
من جهة أخرى، أجزم أن ما قاله لعمامرة، يعكس جهله بكواليس مراحل تاريخية سابقة، لم يتوقف خلالها التواصل بين الرباط و الجزائر، خاصة على عهد الرئيسين بن جديد و بوتفليقة، رحمهما الله، بالرغم من استمرار مشكل الصحراء المغربية. كما يعكس تصريح الوزير الجزائري رداءة في فهم قواعد الديبلوماسية، لأنه لا يستطيع الجزم بما يحمله المستقبل، خاصة و هو وزير خارجية منتهي الصلاحية، قد يغادر منصبه في الأسابيع القادمة، ليصبح بعيدا عن القرار الديبلوماسي الجزائري و عن ما يمكن و ما لا يمكن. و أكثر من ذلك، قد نصحو في المستقبل و نرى أن النظام الجزائري قد غير من نهج العدوانية الذي يسكن قيادته، بعد أن تكون بعض الوجوه قد دخلت الأرشيف السياسي في بلد نعتقد أن شعبه يستحق الأفضل، على يد جيل جديد من السياسيين العقلاء الذين ينتصرون لمنطق التاريخ و لطموحات الجزائريين التواقين إلى الديمقراطية و التنمية و تعزيز الأخوة المغاربية، كما تدافع عن ذلك النهج القيادة الرشيدة للمملكة المغربية التي تؤمن بقدسية علاقة الأخوة بين الشعبين المغربي و الجزائري.
و لكي نفهم جيدا أسباب زلة الغضب و الانفعال التي سقط فيها وزير خارجية الجزائر، يتعين أن نضعها في سياق ما شعر به الرجل من ضيق بعد النجاح الكبير الذي عرفه الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي لهزيمة داعش، المنعقد في مراكش بحضور قرابة 80 دولة، إثر دعوة من وزيري خارجية الولايات المتحدة الأمريكية و المملكة المغربية. و الشاهد عندنا هو البيان البئيس الذي أصدرته وزارة لعمامرة، بعد نهاية اجتماع مراكش، دون أن تنتبه إلى أنها تنقل الجزائر من وضع كانت توهم العالم فيه بأنها غير معنية بالنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، إلى وضع يؤكد أن النظام الجزائري هو الطرف الأساسي لاستمرار المشكل المفتعل في صحرائنا، و الراعي الرسمي لحملات التحريض ضد المغرب.
لسوء حظ لعمامرة، اجتماع ثمانين دولة في مراكش، تبعه مباشرة لقاء عالمي آخر تمثل في الاجتماع السنوي و منتدى الأعمال الحادي والثلاثين للبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، تحت شعار “رفع التحديات في عالم مضطرب”، بهدف مناقشة تحديات دعم النمو الاقتصادي، ومكافحة التغيرات المناخية، و تعزيز مناخ الأعمال في المناطق والدول التي يستثمر فيها البنك الأوروبي. ليتأكد، من خلال توالي المواعيد الديبلوماسية على أرض المغرب، أن بلادنا ركيزة أساسية من ركائز الاستقرار الإقليمي والدولي، وأن النموذج الذي يصنعه الشعب المغربي، منذ 3500 سنة، يؤكد أننا شعب يحيا معتزا بتاريخه وقيمه، ويسير بإرادة وطنية سيادية مسؤولة، بطموح كبير نحو أفق تنموي جديد يقوي الدولة والمجتمع.
وإلى أن يثبت العكس، سيظل أعداء وطننا، غير مستوعبين أن شطحاتهم لا تزيد الشعب المغربي إلا إصرارا على تحقيق الانتصار للمشروع الوطني، في أبعاده التنموية والمؤسساتية والثقافية والحضارية. كما سيظل المتآمرون والمتربصون، عاجزين عن استيعاب سر قوة المغرب، دولة وشعبا، الذي يكمن في عقلانية تدبيرنا للشأن العام، وفي الثقافة الوسطية والاعتدال في التعاطي مع واقعنا، بشكل يجعلنا نمتلك شجاعة الاعتراف بمشاكلنا، ونواجه صعوباتنا، ونصحح نقط ضعفنا ومظاهر القصور في آدائنا، بوعي مسؤول و مشاركة مواطنة، بحرص على ربط المسؤولية بالمحاسبة و على تعزيز سمو القانون على الأهواء، ليقيننا بأن مقومات تحقيق التقدم والنهضة متوفرة في بلادنا، عبر الاستثمار في قدرات وكفاءات أبناء الوطن، و تسريع مسار الإصلاحات وتصحيح بعض الاختلالات التدبيرية التي تسجل بين الحين و الآخر.
ولاشك أن التزايد الكبير لعدد الدول التي تعترف بعدالة قضية الصحراء المغربية، و تنوه بجدية المقترح المغربي للحكم الذاتي لأقاليمنا الجنوبية، يشكل حافزا قويا لنزيد من تركيزنا على خدمة مصالح المغرب أولا، ضدا في أهواء فلول المتربصين والأعداء، ونستمر في العمل على تقوية علاقات التعاون مع أصدقاء المغرب، الذين يدركون جيدا أن دولتنا مسؤولة وجادة في التزاماتها، تحفظ الود لمن يقدر رموز بلادنا ومؤسساتنا، و يحترم سيادتنا الوطنية.
والمطلوب منا، حكومة وفاعلين اقتصاديين واجتماعيين وسياسيين ومدنيين، و علماء ومفكرين و مثقفين، هو أن نعزز الثقة في أنفسنا و في وطننا، وننخرط جميعا في ورش التأهيل الشامل لنقوي أسباب الثقة في الفعل المؤسساتي العمومي، كي تتعزز التعبئة الوطنية ويتقوى الأمل في الحاضر والمستقبل، عبر أولوية تحقيق التنمية المستدامة وحماية الكرامة الإنسانية، والدفاع عن الحقوق التاريخية وعن القضايا المشروعة لوطن كبير على العابثين هو المملكة المغربية.
بقلم : يونس التايب