عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 36

الرّاشتاجْ.. النجاحُ بالمديونية

 

انتهت السّاعات الثلاثُ لذلك الامتحان، أخيراً. جمع الأستاذان الأوراق وتَفرّقَ الطلبة، بين مُستاء حزين وراضٍ مسرور. استطعتُ، بالكاد، الانتهاءَ من تحرير أجوبتي. لم أكن راضياً عن تلك الجولة من الامتحانات ولا على ما جرى خلالها.

وإذا كنتُ في السّنتين الجامعيتين الأوليَيْن قد ضمنتُ النجاحَ في “الكتابيّ” منذ الدورة الأولى، وبفارق مريح من النقط عن المعدَّل المطلوب، فقد عرفتُ -للمرة الأولى والأخيرة أيضاً- ما معنى أن تنجح بالراشْتاجْ (Rachetage) ومعناه أن تنتقل لكنْ بمجموع نقط دون المُعدَّل.

الرّاشتاجْ يعني نقطةً، نقطتين أو ثلاثاً دون المُعدّل المُحدَّد في العادة في 30 نقطة. في تلك الدورة حصلتُ على مجموع 27 نقطة؛ بقيتْ في ذمّتي، إذن، ثلاث نقط كاملة عليّ أن أسدّد “دَينها” من النقط التي سأحصل عليها في “الشّفوي”.

في تلك السّنة كان عليّ، كذلك، أن أعيش تجربة أخرى فريدةً، وتحديداً في طور الاختبارات الشّفهية. كان لزاماً على كلّ طالب أن يُمتحَنَ من لدُن الأستاذ المُخيف نفسِه، الذي كان القدَرُ وحدَه قد أنقذني منه بأعجوبة، في سنتي الجامعية الأولى. كان النظام المعمولُ به في شعبة اللغة العربية وآدابها يقضي بأن نمُرّ، جميعُنا، أمام الأستاذ إياه: الذين نجَوا منه في السّنة الأولى لا بدّ أن يُواجهوا مزاجَه الخاصّ في السّنة الثالثة؛ لكنْ شتّان ما بين السّنتين من فوارقَ. في السّنة الأولى كان مُعاملُ مادته هو 20، ما يعني أنه لضمان النّجاح في تلك السّنة لا خيارَ أمام الطالب المُمتحَن سوى إقناع الأستاذ للحصول على نقطة منه تُخول له ذلك الانتقال. أمّا في السّنة الثالثة فلم تعُد لنقطته أهمية كبرى؛ صارت مادته ثانوية ونقطتها غيرَ مُوجِبة، بالضّرورة، للرّسوب. مع ذلك، حدث لي موقفٌ طريف معه..

ظللتُ ألوك مُحاضَراته على امتداد أيامٍ وليالٍ؛ لكنْ، وقبل ساعاتٍ قليلة من الامتحان الشّفهي، انتشر بين الطلبة نوع من المطبوعات يُعرَف بـ”سؤال -جواب”، فيه عيّنة مختارة من الأسئلة التي اعتاد الأستاذ، على امتداد السّنوات السّابقة، طرحها على طلبته، مع أجوبة مُوجَزة.

عندما حان دوري، تطلّع إليّ ذو الجُثة الضّخمة وبادرني بالسؤال، من تحت شارب كثّ تتخلل سوادَه شعيراتٌ بيضاء مُتفرّقة:

-قل لي، أنتَ، ما هي البُورزْوازيّة؟!

كدت أنفجر ضحكاً في وجهه بعد سماعي الكلمة الأخيرة من سؤاله. لمْ أدر كيف استطعتُ أن أكبح ضحكة جلجلتْ في أعماقي. كانت تلك واحدةً من مساوئ عدم حرصي على حضور المُحاضَرات، خصوصاً في موادّ الاختبارات الشّفهية. ما كان مُضحكاً في أمر ذلك الأستاذ المُرعب هو أنه كان لا يستطيع نُطقَ حرف الجيم (ج) نطقا سليماً، إذ كان ينطقه “زِيـمْ” (ز).. ورغم أنّني فهمتُ أنه يطلب مني تعريفاً للبورجوازية، فقد نسيتُ، تماماً، أمرَ المطبوع الذي اطـّلعتُ عليه وكان فيه تعريفٌ لـ”البُورْزوازية” في ثلاث كلمات.. وعندما شرعتُ في التعريف بالبورجوازية باعتبارها “طبقة اجتماعية ظهرت بين القرنين الـ15 والـ16، تمتلك رؤوس الأموال والحِرَف، وكذا القدرة على الإنتاج والسيطرة على المجتمع ومؤسسات الدولة للمحافَظة على امتيازاتها ومكانتها، حسب نظرية كارل ماركس.. وبكيفية أدق فالبورجوازية هي الطبقة المسيطرة والحاكمة في المجتمع الرّأسمالي، وهي طبقة غير منتجة تعيش من فائض قيمة عمل العمّال، إذ إنّ البرجوازيين هم الطبقة المسيطرة على وسائل الإنتاج، ويقسٌمهم لينين إلى”…

قاطَعني، بانفعال ظاهر، قائلاً:

-اسمَعْ؛ البُورزْوازية هيّ العِلم والتقنية ورأس المال!..

وها قد مرّت الآن قرابة عشرين سنة وما زالت كلماتُ تعريفه “المُوزَز” للكلمة ترنّ في أذنيّ كما لو سمعتُها البارحة فقط.. فشُكراً لك أستاذي “الـْزَليلْ”؛ على الأقلّ احتفظتُ منك بتعريف لطبقـةٍ اجتماعية، وإن كان لا يبـدو أنّني سأصيرُ واحـداً من أفرادها المْرفّحين يوماً!..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *