*الدكتور  يوسف إدريس

 

عفوك يا نزار؛ فأنا لا أريد بكتابتي أن أؤلمك، ولكن ماذا أفعل حين تصبح المواساة نفسها مؤلمة، ماذا يفعل الصديق إذا ألمَّت بصديقه كارثة ما كان يتوقعها له أشد أعدائه خبثًا وخِسة؟ ماذا أفعل يا نزار وأنا حتى لا أعرف عنوانك في بيروت لأرسل لك، وإذا عرفته فأنا لا أعرف إن كان لا يزال قائمًا أو أن كل صناديق البريد في بيروت قد انفجرت هي الأخرى وتلاشت؟ لي شهران يا نزار وأنا حائر غاضب مفجوع لا أدري ماذا أفعل. 

نفس جلستك يا نزار أمام السفارة العراقية المدمَّرة تنتظر بمعجزة تعيد لك الأسطورة التي سحقها الأشرار، جلستك العاجزة الغاضبة ذلك الغضب الجنوني الذي لا بد يجتاح المرء حين يرى الشر بكل قيمه رأي العين، يراه حرًّا طليقًا بينما أنت الحرُّ مقيد مرغم عاجز حتى أن تفتح فمك. نفس جلستك كانت نفس حبستي مع شعوري تجاهك، العجز الغاضب المجنون، ويدي مكبلة وفمي مكبل، وطائرتي مكبلة، وأنا لا أعرف أيهما أشد وطأة، حزني على بلقيسك أم حزني عليك، أم حزني على حياتك كلها التي اشتبكت مع مأساتنا العربية ومأساتنا حتى صرنا جميعًا نغوص في طينها ونغوص حتى غطَّى الطين طاقات الأنوف ولم نعد نستطيع؟

كان لك «توفيق» فأخذه القدر غدرًا، وغدرًا حاول أن يغتالك من قلبك وكانت المعجزة في رأيي أنك بقيت حيًّا.

وعرفت السر حين تعارفنا أسريًّا أكثر، وعرفت بلقيس، وعرفت أنك لم تمت فوق رحمة الله التي سبغها على عبيده في لحظات القضاء المدلهمة تلك لأنها كانت بجوارك.

قبل أن يأخذ الله منك «توفيق» كانت مشيئته كي يبقى لهذه الأمة شاعرًا من خيرة شعرائها على مر الزمان، أن يعطيك بلقيس، إذ قدمت أنت عضويًّا، ولكنها روحيًّا حفظتك حيًّا.

بل وأكثر من هذا، عوضتك عن «توفيق» بابنك الرائع تمامًا «عمرو» الثاني، وقبله كانت قد أعطتك «زينب» وأعطتك النبع والإلهام والحياة المزغردة بالفرحة التي كنت تحياها وسط أو رغم بلادنا التي كانت بالنكبات المولولة تتساقط.

وفي بناء ينهار فيه كل يوم ركن. ويتهاوى حائط، لا بد أن يكون للشاعر فردوسه المفقود أو بالأصح اللاموجود، وإلا لجن، أو اكتأب إلى حد الموت أو مات اكتئابًا. 

لم تتبادلا أمامنا — نحن أصدقاؤكما اللصقاء — قبلة، ولا مدحتها أو مدحتك بكلمة. لم تنشر علينا وعليها أمامنا كلمات عشقك، ولا زاولت أبدًا معها اللعب، وأنت الأستاذ بالكلمة، ولكنا، جميعًا قُراءك وسامعيك الذين لا يعرفونك كنا نحس أن مؤامرة حب رهيبة تدور بينكما. 

ذلك الحب الذي لا يقال ولا ينطق أو يستنطق القدسية في جريانه صامتًا ودون أي ملامح خارجية أو تفكير، إنه كالكهرباء السارية في السلك أمامك، والسلك أمامك يحمل الشحنة الصاعقة ولكنك لا تراها ولا حتى يشعر الناس بها.

حب أروع ما فيه أنك لا تقوله أو تعبر عنه، وإنما هكذا، في صمت، تحياه وتتنفسه ولا تفلت أي لحظة من لحظاته.

لقد رأيتها في شعرك كثيرًا، وكثيرًا ما ذكرتها في شعرك، وكثيرًا ما تحدثت عن «حبك» هذا في قصائدك، ولكنك أبدًا لم تصل إلى تصوير عُشر معشار ما كنت أحسُّ أنا أو غيري، وكأنك تتحدث عن بلقيس أخرى، تتعمد أن تخفي نورها ودورها عن أعين الناس؛ فأعين الناس دائمًا حسادة، وإلا ففسِّر لي بربك، أو أنت يا غير المؤمن فسِّر لي، بأي قانون علمي تعتنقه أن يحدث لك هذا؟ اكذب حتى وحاول أن تفسر فأنا قابل، حتى الكذب الواضح أقبله. أن تموت منك بلقيس هكذا.

ميتة كالحالة التي لا تحدث إلا مرة في كل مليون مرة، كحالة ابنك الحبيب «توفيق»، بل ربما هذه أندر.

أن تكون موظفة في سفارة والسفارات مفروض أنها أشد الأمكنة أمانًا وأمنًا، هكذا منذ أن عرفت الدنيا سفارات، بل وأقصى شيء حدث لها أو فيها من ابتكارات الإرهاب أن هوجمت بمسلحين أو أُخذ موظفوها رهائن، أما أن تدك السفارة دكًا بقنابل المدافع وفي وضح النهار، لا ديناميت مخبأ أو طائرة برقت في السماء وألقت حملها واختفت قبل أن تلمحها أو تدركها عين، لا، هذه المرة قنابل مدافع حتمًا استغرقت لتعمل عملها وقتًا كان كفيلًا في أي مكان على سطح الأرض أن يوقف هجومًا فورًا، أو على أقل القليل يعرف مصدرها، أو أن ينجو من جحيمها أحد.

أي تفسير، أي شيء هذا الذي يحدث لنا وفينا وبنا؟

اللهم إن بشريَّتنا لم ترَ شيئًا يماثله أبدًا، وربما بعدنا لن ترى له مثيلًا بالمرة.

اللهم إن هذا ليس موتًا حتى لو كان الميت حبيبًا ونادرًا ندرة بلقيس، ليس موتًا حتى يجد الإنسان لنفسه سلوكًا تجاهه، يعزى أو يواسى أو يذرف الدمع عجزًا، أبدًا ليس موتًا. وإن تكن ضحيته واحدة من غلاة ضحاياه، بلقيس بالذات، ملهمتك، أنت الشاعر المرهف الذي تبكيه فعلًا ميتة نحلة.

لكي يجسد القبح بأشد ما يكون التجسيد قبحًا.

والغدر بأشد ما يكون الغدر خساسة.

والفجيعة بأبشع ما تكون الفواجع عُهرًا “

* الصورة- بلقيس الراوي دبلوماسية عراقية وزوجة الشاعر نزار قباني. قُتِلت في تفجير السفارة العراقية في بيروت سنة 1981.

المصدر: من كتاب ” أهمية أن نتثقف يا ناس ” للطبيب والأديب الكبير يوسف ادريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *