*مصطفى لمودن

 

أحكي ما رأيته في صغري بكل صدق وبدون مزايدة.

كان في قريتنا ثلاثة أشخاص من حفظة القرآن. أحدهم كان “يشارط” بمساجد بالقرى، قبل ان يتوقف ويهتم بفلاحته..

والثاني تعلمت على يديه بمسيد الدوار، وكان “مشارطا” مؤقتا في انتظار فقيه آخر، قد يحل بين الفينة والأخرى.

و”الشرط” هو تعاقد بين سكان القرية والفقيه، يتفقون جميعا على شروط محددة تغطي سنة.

كانت الصلاة ومازالت تقام بالمسجد..

يصلي من يشاء، ولا يصلي من يشاء. ويسود الاحترام علاقات الناس فيما بينهم.

والفقيه، بمن فيهم أبناء القرية، لا يتدخلون في شؤون أحد. قد يجيبون متسائلا او متسائلة عن شيء يهم الدين، ولكن لا أحد يسعى للتحقق في مامدى تطبيق النصائح.

يحضر الفقيه الرسمي “المشارط” بالقرية الحفلاتِ العائليةَ، ويرافقه آخرون كان يرسل في طلبهم من قرى أخرى..

يقرأون القرآن وينشدون امداحا، يستمع الحضور الى ذلك، سواء بتدبّر او استلطاف..

ينهي الفقهاء الحفل بأدعية، وينتهي أمر “المقدس”، ليشرع جانب “المدنس”.

قد يعلو غناء النساء بعد ذلك، ويبقى المجال لهن وحدهن يطربن كما يرغبن.. والرجال يسمعون من القيطون المبني بجانب المنزل او من غرفة مجاورة..

 

ونحن الأطفال الذكور نتزاحم على الباب حيث يلفح وجوهنا صهد كثير، تشاهد عيوننا رقص امراة او فتاة وقد لفت وسطها بفولار.. الغناء والطرب والايقاع على أشده. وكل من ألقت على رقبتها الراقصةُ تلك الفولار عليها أن تقوم لتؤدي رقصة..

التي تنقر على صينية بقيعان الكؤوس تكون سيدة تتقن تلك الصنعة، كما ان رنين دمالجها يساهم في الايقاع، ويمكن من طرفها او من  قِبل غيرها، ان تطلق “سرّابةً” ، وهي من بيتين شعرين باللغة الدارجة لهما قافية موحدة، تأتي طيف الخاطر واللحظة، تحمل معنى ورسائل ومدحا وبعض الإيحاء (كان حينها الرجال في خلوتهم يتغامزون كلما سمعوا ذلك). والكورال هم نساء أخريات يوقعن على طعاريج ودفوف..

وإذا كان الحفل ختانا او عرسا، فالامر مختلف.. حيث تكون سهرة “الغياطة” الى بزوغ فجر اليوم الموالي، حيث يُعزف “الهيث”، بمشاركة فرقة الغياطة باربعتهم، منهم طبّالان، وكذلك فرقة  الهياتة، إما تدعى للمناسبة، او تكون من سكان القرية انسفهم ومن اقارب ومدعويين. تقريبا الجميع  يعرف الهيت.. (هيتتُ بطبسيل وانا في الثالث ابتدائي).. كان الرقص جماعيا، من الرجال  والنساء، بمشاركة الزوجات.. في حفل تشاركي بديع. 

ما لم يبق اطلاقا في هذا الزمن، هم فرق الفلكلور الجوال من نساء ورجال، كنا نسميهم “الشياخ”، يحلون بالقرية ليوم او أكثر، يقدمون سهرة موسيقية راقصة الى الهزيع الاخير من الليل.. وكانت حتى نساء القرية وبناتهن  يأتين للفرجة، لكن يجلسن خارج القيطون،  ويتفرجن من تحت الغطاء الجانبي، يرفعنه ويتابعن دون ان يهتم أحد لذلك..

لم يكن المجتمع مثقلا بكثير  من العقد، كان الزواج مبكرا، وكانت كلفته عادية او بسيطة، بدون متطلبات أو شروط كثيرة. ولم يكن الفقيه شخصا ثقيلا، ميزاجيا، يسوّد الحياة، ويُنفّرُ من الدين. 

*قاص وكاتب صحفي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *