فاس-لاماب

 

يحتل المجال الروحاني والتعبدي بمدينة فاس نصيبا مهما في حياة الساكنة خلال شهر رمضان، يزكيه العمق التراثي الذي تجسده المنارات التراثية للعلم والعقيدة التي تزخر بها المدينة. 

وتكتسي المساجد عموما، والعتيقة منها على الخصوص، حركية مختلفة عن بقية أيام السنة، إذ يحج اليها الصائمون لأداء الصلاة والمكوث بداخلها تبركا وتخشعا، وقراءة أو الاستماع إلى ما تيسر من الذكر الحكيم.

ويمثل جامع “القرويين”، منارة العلم والمعرفة، أحد أهم الأعمدة الروحية بالمدينة التاريخية التي يعود نشأتها إلى أكثر من 12 قرنا. فقد تأسس الجامع في القرن التاسع (859م) على يد فاطمة الفهرية، السيدة الصالحة المنحدرة من مدينة القيروان (تونس)، ليغدو قطبا تعليميا مهما، ومركزا لتلقين المعرفة العلمية والدينية، مستقطبا منذ نشأته العديد من العلماء والدارسين (ابن رشد، ابن باجة، ابن خلدون…).

وتسطع مساجد العاصمة العلمية في شهر رمضان بأجواء من التعبد والأدعية والإبتهالات، كما تحتشد ليلا بالمصلين لأداء صلاة التراويح.

ومما يزيد من خصوصية الأجواء الروحية الرمضانية أن الشهر الفضيل يأتي بعد سنتين متتاليتين من غياب التراويح بمساجد المملكة، بسبب جائحة كورونا، حيث طال اشتياق النفوس لبيت الله، فأقبلت على المساجد بلهفة وشوق كبيرين بحسب الباحث في التراث والفكر المغربي، ورئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي- مساق- بمدينة فاس خالد التوزاني.

ويقول خالد التوزاني في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن الإقبال على المساجد يظهر في الاكتظاظ الكبير الذي تشهده جميع مساجد مدينة فاس، ليس في صلاة التراويح وحسب، ولكن في جميع أوقات الصلاة، وهو ما يؤكد تنامي الالتزام الديني والشعور بالرغبة في التطهر الروحي خاصة بعد التجربة الأليمة مع وباء كورونا.

ويضيف أن الأجواء الروحية والتعبدية في شهر رمضان بمدينة فاس، تعكس تشبث سكان هذه المدينة بثوابت الأمة المغربية، سواء في المساجد أو من خلال أعمال البر التي تنتعش في هذا الشهر كالصدقات وأشكال الخير والإحسان وصلة الأرحام، وهي الأجواء التي اعتاد عليها أهل فاس في العشر الأواخر من كل رمضان، ولكنها في رمضان لهذه السنة بدأت من اليوم الأول، ودل ت على تماسك المجتمع الفاسي والتزامه الديني المتين.

وتمثل صلاة التراويح بمساجد فاس، وعلى غرار سائر مساجد المملكة المغربية، مجالا رحبا لتوفير الأمن الروحي والتعبدي، ولذلك تستعد المساجد لاستقبال شهر رمضان، بإصلاح ما يحتاج فيها إلى إصلاح وصيانة وتنظيف، بدء ا من مكبرات الصوت والإضاءة الكافية، وغسل الأفرشة والزرابي، ومرورا بصباغة بعض الجدران أو ترميمها، وانتهاء بالعناية بمحيط المسجد.

وتمتلئ في صلاة التراويح المساجد عن آخرها ويضطر كثير من المصلين للصلاة في الساحات المجاورة. ويتنقل بعضهم بين مختلف مساجد فاس للتلذذ بسماع القرآن والتماس الخشوع في بعض الأصوات أو القراءات، حيث يكتشف ع مار بيوت الله في هذا الشهر بعض القراء الذين حباهم الله بصوت جميل وأتقنوا قواعد التجويد، وخاصة أولئك القر اء الشباب الذين شاركوا في مسابقات لحفظ وتجويد القرآن في منتديات دولية أقيمت خارج المغرب.

وتشكل التراويح في مدينة فاس حسب الباحث في الهوية المغربية والتراث والفكر المغربي، مناسبة سنوية لإشباع الجانب الروحي وتلبية الحاجة لسماع القرآن مباشرة من أفواه أشهر القر اء المغاربة، ولذلك يتسابق المصلون على الصفوف الأمامية، ويتوافدون على المسجد قبل موعد صلاة العشاء بوقت طويل، وهو الوقت الذي يستفيد منه المصلون أيضا في الإنصات لدروس الوعظ والإرشاد في بعض المساجد بمدينة فاس.

وهكذا تتحول صلاة التراويح إلى زاد روحي وتعبدي يجمع بين أداء فريضة الصلاة وسنة قيام الليل وفريضة طلب العلم بالإنصات للدروس، فضلا عن الاجتماع بين الناس ونسج الصلات الإنسانية ولقاء الجيران وتجديد الصداقات، ولذلك يوجه العلماء المغاربة عناية الناس إلى أن الصلاة ينبغي أن تكون في مسجد الحي، من أجل الحفاظ على تماسك سكان الحي، وتعارفهم وتواصلهم.

وأكد الباحث على وجود علاقة وثيقة بين الأجواء الروحانية التي تنتعش في شهر رمضان، وبين العادات والتقاليد المغربية الموروثة، فالمغاربة أغلب عاداتهم مرتبطة بالبعد الديني، حتى في الأعمال الدنيوية كالتجارة والفلاحة والصناعة، وغيرها من مجالات العمل المادي، حيث يلحظ الأثر الروحاني في بعض مراحل إنجاز العمل. ولا شك أن هذه العادات قد مث لت وجها مشرقا في الثقافة المغربية، لأنها تؤسس للتماسك الاجتماعي وتحافظ على قيم التضامن والتآخي، وإحياء روابط الأخوة الدينية، وتأكيد صلات القرابة وتعظيم الدين والأخلاق، وهي الأبعاد الروحانية التي تنتعش في شهر رمضان أيضا.

وأضاف خالد التوزاني أن العادات المغربية الموروثة تصب في تعزيز “ذلك التعايش الديني الذي يمي ز المجتمع المغربي ويؤكد انسجام مكوناته وكأنها لحمة واحدة، وهو ما نلمسه أيضا في مؤسسة إمارة المؤمنين التي ترعى شؤون كل المؤمنين مسلمين وغير مسلمين”، وهذه القيم والعادات المغربية هي التي جعلت المغرب رائدا في الدبلوماسية الروحية وفي تدبير الشأن الديني بمنهج وسطي ومعتدل منسجم مع تعاليم القرآن والسنة النبوية وخادم لمقاصد الشريعة الإسلامية السمحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *