*أحمد الدافري

لا أعرف ما العلاقة بين أن ينتقد شخص ما، ممثلة لأنها هاجمت الجمهور وطالبته بالسكوت وبتغيير قنوات عمومية إن لم تعجبه سيتكوماتها، وكأن الجمهور ليس هو الذي يمول برامج هذه القنوات ولا حق له في انتقادها، وبين أن يكون هذا الشخص حقودا ومُحبطا ويعلق إخفاقاته وحماقاته على الفن والفنانين ويشن هجماته عليهم.

سيدتي المحترمة الناجحة غير المحبطة التي أصبحت تعتبر نفسها وصلت إلى القمة وترى أنها فنانة تتعرض للهجوم من حقودين لأنها امرأة ناجحة تمنح المغاربة الجواهر الفكرية واللآلئ الأخلاقية التي يهتدون بها إلى سبيل النهضة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في البلد. بما أنني واحد ممن طالبوا باحترام رأي الجمهور فيما يستقبلونه من أعمال تلفزية تسمى فنية، سأخبرك بشيء، أنتِ تعرفينه جيدا..

أنت تعرفين أنه في الوقت الذي كنت أنت ما زلت تتهجين حروف الحياة كنت أنا واحدا من المغاربة الذين وصلوا إلى وظيفة أستاذ السلك الثاني يدرس الرياضيات في الثانوي التأهيلي بعد كفاح ومعاناة مع ظروف سياسية واجتماعية تجهلينها لأنك لم تعاصريها وتعلمين أنني حين دخلت أول مرة على التلاميذ في القسم ومن بينهم من كان في مثل سني تعاملت معهم مثل أصدقاء وإخوة وأخوات وبادلتهم الحب وكتبت لهم مسرحيات وأنشأت معهم جمعية مسرحية في مدينة لم تكن قد عرفت في تاريخها قط أي ممارسة مسرحية دائمة بين شبابها ما عدا ما كان يتم إنجازه داخل المدارس من لوحات فنية بمناسبة عيد العرش أيام الراحل الحسن الثاني.

وأنت تعرفين سيدتي، وأنا على يقين أنهم أخبروك بذلك، أنني لم أشعر قط يوما بالإحباط، لأن وضعي الاجتماعي والعلمي والتربوي كان يسمح لي بأن أعيش في ظروف مادية مرتاحة، وكان ممكنا أن أقوم مثل كل أساتذة الرياضيات بتسخير تكويني العلمي في إعطاء دروس إضافية للتلاميذ في بيوتهم أو في مقرات خاصة أحقق منها أرباحا إضافية، وهو الأمر الذي لم أكن أفعله مفضلا أن أساهم بقدر من راتبي في إنجاز أعمال مسرحية وفي شراء كتب حول المسرح بالفرنسية والعربية وتوزيعها على أفراد الجمعية، ومنها كتب كنت أقتنيها خلال أسفاري الصيفية لباريس..

وأنت تعلمين سيدتي أنني حين كنت أساهم في تربية جيل من التلاميذ على الفن الذي يرقى بالنفس وبالعقل وبالإحساس، لم أكن أفعل ذلك رغبة مني في الحصول على وظيفة لأنني كنت موظفا في وظيفة مريحة. ولم يكن هناك مجال للإحباط في حياتي، بحكم أن علاقاتي مع محيطي ولله الحمد كانت ولا تزال سوية، ودعمتها بعلاقات مع الوسط الثقافي والمسرحي الوطني من خلال الرحلات التي كنت أقوم بها لحضور مهرجانات مسرحية وطنية، من أجل التواصل مع جمعيات وفرق ومسرحيين والتعاون معهم وإشراكهم في الملتقيات المسرحية التي كنا ننظمها.

وقد امتدت هذه العلاقات كما تعلمين سيدتي إلى خارج المغرب، خصوصا عندما ذهبت لأمارس تدريس الرياضيات في سلطنة عمان سنة 1994 واشتغلت هناك بموازاة مع التدريس متعاونا مع جرائد خليجية ومع مجلة نزوى الثقافية العمانية في مجال ترجمة النصوص الأدبية والمسرحية من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية. وبما أنني تربيت على أن المال ليس هو الذي يصنع الإنسان، بل الإنسان يصنعه الشغف والولع والعزيمة والإرادة، فقد تخليت عن المبالغ الجيدة التي كنت أحصل عليها في سلطنة عمان وقدمت استقالتي بعد سنتين من وظيفتي هناك، وعدت سنة 1996 إلى بلدي، راضيا بما أحصل عليه من مال في وظيفتي، ومستمتعا بممارسة هواياتي.

وأنت تعلمين سيدتي أنني حين عدت إلى بلدي من سلطنة عمان، لم أكن لا محبطا ولا حاقدا، بل عدت وأنا كلي حيوية كي أساهم في الفعل الثقافي والفني، من خلال العمل المسرحي والفنون البصرية والأندية السينمائية من بينها النادي السينمائي الذي أسسناه نحن عدد من الموظفين والطلبة. وتعلمين، أو لا تعلمين، لا يهم، أن العاملين في مجال الإنتاج التلفزي أصبحوا في تلك الفترة متعودين على قراءة كتاباتي حول إنتاجات الإذاعة والتلفزة والسينما في جريدة الاتحاد الاشتراكي التي كان صيتها ذائعا، وبالخصوص في الملاحق الفنية والتلفزية التي كان يشرف عليها أستاذنا الراحل مصطفى المسناوي..

وأنت تعلمين سيدتي، أن جريدة الأحداث المغربية عندما تأسست احتضنتني في عهد مؤسسها الأستاذ المحترم محمد البريني وبفضل صديقي المختار لغزيوي الذي هو حاليا مدير نشر الأحداث المغربية، والذي رأى في شخصي المتواضع رجلا لديه ما يضيف في مجال الكتابة عن الثقافة والإعلام والفن، فساعدني على التموقع داخل مشهد الصحافة الفنية، وكلفني بتغطية مهرجانات مسرحية وسينمائية كبرى مثل مهرجان مراكش الدولي للفيلم ومهرجانات أخرى خارج البلد في دول عربية وإفريقية.

فأي إحباط يمكن أن أشعر به وأنا بين أصدقاء محترمين يقدرونني وأقدرهم وأعيش معهم أجمل أيام حياتي؟ وأنت تعرفين سيدتي، أنني حين دخلت مجال الكتابة الصحفية من بوابة الثقافة والفن، انتقلت إلى مرحلة التكوين العلمي فيها، وكابدت في التعلم، وفي البحث في مجال علوم الإعلام والتواصل إلى أن حصلت على شهادة الدكتوراه في تكوين اللسانيات والتواصل والترجمة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، أضفتها إلى دبلوم الدراسات المعمقة في الرياضيات تخصص مادة الجبر  الذي كنت قد حصلت عليه في جامعة الرباط، قبل أن أصبح مدرسا في مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة بجامعة عبد المالك السعدي، أعطي الدروس في الترجمة و التواصل والإعلام لطلبة ماستر ترجمة تواصل صحافة.

 فأي إحباط هذا الذي يمكن أن أشعر به؟ أي حقد هذا يمكن أن أشعر به؟. هل الذي لديه حياة مستقرة وأصدقاء محترمون ووظيفة هانئة وهادئة مفعمة بالعلاقات الرائعة مع الطلبة والطالبات يمكن أن يحقد أو أن يشعر بالإحباط؟.

مع الأسف سيدتي، كنت أنتظر منك ردا عقلانيا محترما على ما اقترفته من وقاحة في حق الجمهور المغربي. لكن خاب ظني فيك. ولم أعد أعتبرك فنانة سيدتي. فالفن هو حين يستطيع شخص أن يأتي بفعل مُدهش لا يستطيع كل الناس أن يأتوا به. لكنك أنت أصبحت لا تأتين بأي فعل مدهش. تأتين إلى حد الآن فقط بأفعال يمكن لأي كائن ينفس الهواء في هذه الدنيا أن يأتي بها. وهي أفعال المعيور.

الفن سيدتي، إبداع يرفع الذوق وينمي السلوك ويهذب النفس. وليس تبجحا وغرورا فارغا وادعاء كاذبا و تخراج العينين. مع الأسف. اليوم الوحيد الذي أشعر فيه بالإحباط الذي تتهمين به من انتقدوك، هو اليوم الذي أسمع فيه أشخاصا يقولون عن أنفسهم بأنهم فنانون وهم لا علاقة لهم بأخلاق الفن. وهذا ما كان.

*كاتب-صحفي وناقد ومسرحي

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *