الدافري

*أحمد الدافري

 

عندما ينتقد أشخاص من عامة الشعب مسلسلا تلفزيا من خلال سلوك صادر عن شخصية ما، أو من خلال وضعية تتضمن صورا  معينة، تنبري لهم جماعة من “النقاد الحداثيين”، الذين يشرعون في إعطاء دروس النقد الفني لهؤلاء الأشخاص “الجاهلين” بماهية “الصورة الفنية” و”العاجزين” عن إدراك “الإبداع التخييلي”، ويحشرونهم في دائرة “الظلاميبن” و”المنافقين” الذين يريدون “تقييد الإبداع” وقمع “حرية التعبير” ويرفضون مشاهدة واقعهم كما هو “بدون مساحيق”.

المسلسلات التلفزية سيدي “الناقد الحداثي” هي بالفعل إبداع ودراما تخييلية. لكن صانعها من المفروض أن تكون له رؤية واضحة وسليمة عن الكيفية التي ينبغي أن يتواصل بها مع محيطه ومع الأشخاص الذين يستهدفهم بعمله. كما ينبغي أن يكون مدركا للكيفية التي تستقبل بها فئات المجتمع خطابه الدرامي، كل فئة على حدة..

فأنت أيها المشتغل في مجال الدراما حين تصنع عملا تلفزيا تسميه إبداعا أو تخييلا أو فنا أو تعبيرا حرا أو  سمّه ما شئت، لا تحسب أن كلمات من قبيل “الإبداع” و”الفن” و”حرية التعبير” تسمح لك بأن تفعل ما تشاء في تلفزة موجودة كي تخاطب المجتمع برمته. فأنت يا سيدي لست وحدك الذي تمثل المجتمع. ولست وحدك الذي لديك وجهة نظر وتريد أن تفرض وجهة نظرك تلك على كل الناس. بل أنت مجرد فرد واحد من المجتمع. والمجتمع أطياف وثقافات وقيم ورؤى وعقليات..

والتلفزيون وسيلة إعلام عمومية ممولة من مال عمومي، أي أن عموم الناس هم الذين يساهمون في تمويله. والمبدع التلفزي الحقيقي هو الذي يستطيع تمرير خطاباته بأسلوب فني يجعل عامة الناس قادرين على الاستفادة مما يستقبلونه من أعمال تلفزية.. فالتلفزة وسيط إعلامي يبهر الناس بشدة إن تمكن الخطاب التلفزي أن يمر  إليهم بسلاسة في قالب إبداعي فني مؤثر.

والتلفزيون ليس معمولا كي يخاطب فقط الذين يدرسون في الجامعات نظريات الفن ويتعمقون في الاتجاهات التعبيرية وفي مناهج النقد الفني والجمالي. بل هو معمول كي يخاطب عامة الناس في المدن والقرى والبوادي والجبال والأحياء الشعبية والمناطق النائية والأشخاص الذين لم يستفيدوا من تعليم في المدارس أو الذين تمدرسوا وانقطعوا وظل مستواهم العلمي بسيطا والذين لا يمكن أن يفهموا ماذا تقول  شخصية في مسلسل حين تتحدث بحوار هجين.

و عوض أن تقول لشخص أمامها: “مافهمتكش آسيدي شنو باغي تقول بالضبط” تفضل أن تقول له: “جو نو سي با موسيو سو كو فو فولي ديغ إكزاكطومون”، معتقدة أنها تنقل بصدق الكيفية التي تتحدث بها الشخصية في الواقع، بينما الحقيقة الإبداعية تختلف عن حقيقة الواقع، لأن الإبداع إن كان مسموحا فيه بالتخييل، فلأن التخييل يسمح للمبدع باختيار الأسلوب الأنجع الذي يمكن من خلاله أن يتواصل مع الفئات التي يستهدفها بعمله، وليس باختيار أسلوب يخلق إزعاجا لفئة معينة من الناس من خلال توريطهم داخل فضاء تخييلي لا يؤدي وظيفته التواصلية، ويجعل المتلقي عاجزا عن فهم الرسالة الخطابية التي تنطوي عليها الحوارات بين الشخصيات، وهي حوارات تجعل هذه الشخصيات فاقدة لهويتها المغربية، ومستلبة بنمط لغوي لا علاقة له بلغة الشعب الذي يتطلع إلى التحرر من هيمنة المستعمر الفرنسي، ويرغب في أن تكون له خصوصية تميزه عن باقي الشعوب تسمى “تامغريبيت”، وتامغريبيت هذه التي يتشدق بها البعض في برامج تلفزية ويطالبون بأن تكون هي خارطة طريق المغاربة نحو فرض وجودهم ضمن النسيج الثقافي الكوني، لا يمكن أن تُرسَّخ سوى بإعلام تلفزي مغربي صرف يقوم على الاعتزاز بالهوية المغربية وباللغة المغربية بتنويعاتها المتعددة الخالية من الشوائب والزوائد التي تعطبها من حيث البنية والأسلوب والبلاغة، والاستفادة من مفهوم تامغريبيت هذه في صناعة دراما تلفزية وطنية، ناضجة وواعية بمسؤوليتها التثقيفية والتربوية والتوعوية، وليس دراما تريد أن تقول للناس بأنك إن أردت أن تكون مغربيا بورجوازيا يجب أن ترطن بكلمة بالدارجة وبكلمتين بالفرنسية، وإن أردت أن تبدو شريرا يجب أن تدخن سيجارة إلكترونية أمام والدك.

أعرف أن هناك “نقادا” سينتقدون ما جاء في هذا المقال، معتبرين أنه يعكس خطابا محافظا لا يتماشى مع فكر الحداثة. لمثل هؤلاء “النقاد” أقول بأنني أفهم أن الحداثة تقوم على ثلاثة مفاهيم هي : العقلانية، الحرية والفردانية. وأقصد بالعقلانية كل ما يقبله العقل والمنطق وما لا يقوم على تناقضات. وأقصد بالحرية ذاك السلوك الذي لا يؤذي الآخر ولا يخلق له ضرر. وأقصد بالفردانية تثمين عمل الفرد إن كان هذا العمل أصيلا نابعا من تفكير عقلاني وحر، وليس  منقولا من الغير أو معمولا لمجاملة الغير أو موصى به لتلميع صورة رديئة للغير.

وأنا من فئة الشعب التي تشاهد الدراما المغربية رفقة أفراد أسرتها، وأتطلع إلى أن تأخذ هذه الدراما من الحداثة مفهوم العقل والحرية والفردانية، بالمعنى الذي يرتقي بالمستوى الذهني والسلوكي والأخلاقي للمواطن، وليس بمعنى حرية اقتراف التخربيق.. وهذا ما كان.

*ناقد وخبير في الاعلام والتواصل

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *