حسن البصري

عندما طفت أخبار الأزمة السياسية المستعرة في أوروبا الشرقية، على سطح الأحداث ودقت طبول الحرب بين أوكرانيا وروسيا، تذكرت المدرب الأوكراني سيباستيان كو يوري، الذي عاش فترة طويلة في المغرب واخترع قاموسا لغويا تتعايش فيه اللغة الأوكرانية باللهجة الدارجة.

حمل يوري على الأكتاف وطوقت الجماهير عنفه بأكاليل الورود، وداسته الأقدام حين غطت طبقات النسيان إنجازات هذا المدرب العاشق للمغرب حد الثمالة.

في منتصف الثمانيات من القرن الماضي حل يوري بمدينة خريبكة تلبية لدعوة من ادريس بنهيمة الذي كان يحكم الفوسفاط ويدير شأن أولمبيك خريبكة، سلم له مفاتيح الفريق وبوابة الملعب ومنحه سكنا في “الفيلاج”، لم يطالبه بألقاب ولم يوقع معه عقدة أهداف، بل دعاه لجعل المدينة منجم أبطال.

في غفلة من الجميع تأبط يوري بندقية كلاشينكوف وتحول إلى مقاتل لا يشق له غبار، تخصص في هزم الكبار، وحمل فريق خريبكة على هودج الأخيار، لكنه لم يصمد أمام عرض مغر من الوداد فنفض الغبار ورمى الخوذة ثم ودع المنجم.

حل المدرب الأوكراني بالوداد يحمل منجلا، شرع في حصد الألقاب كلما أينعت وحان قطافها، فدخل كتب التاريخ وأصبحت صورته تتصدر صحف الكرة وحيطان المدينة القديمة.

ومن الوداد انتقل إلى الغريم الرجاء وجاب فرق المغرب طولا وعرضا، قبل أن تأخذه رياح الاحتراف إلى خليج العرب وخليج سرت، وكلما توقفت الكرة عن الدوران عاد إلى الدار البيضاء ليجلس في مقاهي الكورنيش ويمارس هواية مناجاة المحيط.

فجأة داسته الأقدام وأصبح مجرد قطعة أثرية لا تستهوي إلا عشاق الحفريات، تفرق جمع المعجبين من حوله وتركوه عرضة لهجوم الزمن الذي لا تنفع معه خطط المدربين. وحين قررت إدارة الوداد استعادة هذه القطعة الأثرية وإنقاذها من التلف، عهد إليه بمنصب صغير وسكن غرفة في الملعب مكنته من استنشاق رائحة العشب.

كلما تأخر الراتب البسيط، يتناول وجبة الطون والحرور عند بائع يرابط في جنبات الملعب، وحين يفرج عن الأجر يعود إلى طقوس زمن مضى ويختار مطعما هادئا في الكورنيش. قضى الرجل أيامه الأخيرة فاعلا للخير حيث تعهد بعلاج لاعب سقط من مفكرة طبيب الفريق، تحمل يوري فاتورة العلاج والدواء وتحول إلى بطاقة الرميد لمن أهدر فرصة التغطية الصحية، وانتهى به الأمر هائما على وجهه في شوارع الدار البيضاء، يحكي لصحافيي زمانه قصة رواتب معتقلة وديون مؤجلة الدفع.

نصحه أحد الرفاق بعرض القضية على لجنة المنازعات، لكنه لا يملك عقدا ولا وثيقة إلا صورا في ملعب الوداد وسط الكؤوس، وبعد أن تاه في طرق الوئام، لجأ لسفير أوكرانيا في الرباط تعاطف معه ووجه رسالة للخارجية المغربية التي حولتها إلى إدارة الوداد.

في اليوم الموالي خرج المدرب إلى دكان قريب من الملعب لاقتناء جبنته الحمراء المفضلة، وحين قفل راجعا أشعره الحارس بقرار المغادرة ومنحه مهلة لجمع حقيبته والبحث عن ملاذ آخر. كاد أن يبتلع لسانه من هول الصدمة، لكنه غادر المكان قبل أن تنتهي المهلة. 

ذهب المدرب الأوكراني “يوري” إلى مدينة الفقيه بن صالح للتفاوض مع الرئيس على أمل الإشراف على تدريب فريق المدينة، جلس في المقهى ينتظر طلعة المسؤول، كان يخفي وجهه وراء كمامة وقبعة، مرت الدقائق بطيئة ونضبت القهوة السوداء دون أن تظهر تباشير الرئيس.

رن هاتف يوري فحمل اعتذارا من مخالط الرئيس، بدعوى استقالة رئيس الفريق وخضوع رئيس المجلس البلدي للتحقيق في المقر المركزي للفرقة الوطنية، وعزوف الجماهير بسبب ضائقة كورونا، فانتفض المدرب من مكانه وقرر العودة من حيث أتى مهزوما مكسور الوجدان.

في زمن الحجر الصحي خرج يوري ولم يعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *