عبد الرزاق بوتمُزّار

اليـوم الـ28

التاسعة صباحاً وبعـضُ دقائق. بنايةٌ أنيقة. بابُ مصعـد يُفتَح. جسدٌ مُتعب يدلفُ نحو يوم إضافيّ من يوميات المْسخـُوط، والمهنةُ مَتاعبُ..

“تَحقّق المُستحيلُ .. قلتُ لي وأنا أجلس أمام الجهـاز. ستخبط يمينا وذاتَ الشمال. وإنْ كنتَ محظوظاً قد تنتهي في حدود الثّانية ظهرا وبعضِ دقائقَ. ذلك كان أقصى ما يستطيع فعله (وفي رواية أخرى الحلمَ به) الجسدُ المنهك، والعينان وكلّ الحواسّ. كانت أمنيتي الأولى قد تحقّقتْ: العيدُ يوم الجمعة، وليس الخميس.. ابتسمتُ، ضحكتُ وحيدا (كما أحمق أو آخِر عاقل). قرأت تعليقات الزّمَلاء، وأنا أهنّئني. قد تحقـّقَ حلمُ الحظوة بـ48 ساعة كاملة وسط عصافيري الصّغيرة الرّائعة. تلك هديتي الأجملُ من قدَر ليس بينه وبين مَحبّة الخيرِ لي وطيدُ علاقة..

(ثمّ، لمَ لا أجرّبُ الحصول على يوم إضافي أو يومَين؟) قلتُ لي، وأنا أذرَع البهو الطويل نحو زاوية المُدخّنين المهجورة. ثمانية وعشرُون يـوما انقضتْ، في غمضات عينٍ، من عُمْر ينصرم سريعا والأزمنة لاهثة، مُتهافتة حتّى… حتى كلّمتُ رئيسي في الموضوع، ولمّا لمْ يَبدُ عليه أنه يُمانع (وإنْ حاوَل، في البداية، إشعاري بالرّفض وبالحاجة إلى خدماتي) استأذنتُه في ملء طلب بعطلة اليومَين. آنَ للجسد المُتعَب بعضُ راحة، بَعْد كُلّ ها الكدّ والجدّ، والشّهـرُ رمضان..
-بعد البُوكْلاج، ذكّرْني..
قال من وراء ورقةٍ بين يدَيه. (بَعْد البوكـْلاج أخطط -في خيالي المُتعَب- لأنْ آخذ الورقـة مُوقَّعة وأغادرَ المكانَ في أقربِ فرصة.. وأنت تطلب مني أن أذكّرك بالموضوع بعد البُوكـْلاج.. سيكون في انتظاري قطار الثالثة إلا دقائق (وأفتح هُنا قوساً آخرَ لأسأل: ما دامتْ قطاراتُنا تأتي، في الغالب، مُتأخرة عن مواعيدها فلمَ لا تكون مواقيتها في ساعة ما و”بعض دقائقَ” بدَلَ “إلا دقائق” التي يُصرّ المكتب الوطنيّ على إعلانها لرحلاته؟)..

وكذلك كان (بَعدَ أخذٍ وردّ، للأمانة): حين نفضتُ يدِيّ مِـن آخِر مقروء استطعتُ إكماله، حصلتُ على يومَي راحة فوقَ يومَي العيد..

تأخّر القطار -كما أعلَن، عبْر المُكبّراتِ المبثوثة في الفضاء، ذلك الصّوتُ الأنثويّ الرّطب- بخمسة عشرة دقيقـة (في الغالب أكثر، كما أشرْنا إلى ذلك في القوس أعلاه).

المللُ يستبدّ بالأجسادِ المُترقبة المُتعَبة. جلس إلى جواري شابّ مكناسيّ (عرفتُ منه، لاحقاً، أنه يشتغل مـوظفـا في بنك). وضع كرتونة كبيرة قرب ساقيه الطويلتين وراح يتطلع إلى الكتاب بين يـدَيّ. وأنا مُسافر عبْر هذه الدّابة “العوراءِ” فقط أجد نافذة للمُطالَعة.. رغم أنّ الجسدَ يكون، والدّماغُ، في أقصى درجات الإنهاك والتـّسخسيـسْ، أُلحّ عليهما أن “يعذراني”. فالسّفرُ فرصتي الوحيدة للسفر رفقة رفيق قديم..

-هل تسمح لي بالاطلاع على عنوان كتابك؟
قال، وابتسامته الفتية ترافق كلماته.
-آه، طبعاً، “أبجدية الوُجُود”..
-دراسة في… مُراتِب الحُروف..
-دراسة في مَراتِب (وليس مُراتِب) الحُرُوف ومَراتِب الوُجود عند ابن عرَبي”.
قلتُ، وأنا أناوله المُؤلـَّف.
-هادْ العُنوانْ فْشي شْكل.. كيفاش مَراتِب الحُرُوف ومَراتِب الوُجود؟

-للحرْف عند ابنِ عرَبي منزلة خاصّة وعلاقة يصعُب فهمُها أو تشريحُها.. لم أستوعبْ بَعدُ مضامينَ هذا الكتاب، لكني أحاول.. هو مؤلف مهمّ لكنْ ربّما يتطلّب معرفـة مُسبقة بابنِ عرَبي الذي يتحدّث عنه.. لا أخفيكَ، أجده غنيّا لكنْ ربّما أعدتُ قراءته مرّاتٍ ومرّات كي أستطيع أن أناقشَ مُحتواه معـك.. قد اقتنيته قبل أيام قليلة ولمْ أتعمّق بعدُ فيه.

حضرت الدابّة (مُتأخّرة). ودّعتُ البنكي الشاب. انسللتُ إلى جوف القطار. جلستُ فوق أقربِ كرسي شاغر. (إذا وجدتَ مقعدا شاغرا في أحد قطاراتِ الجنوب لا تتردّدْ أو تبحثْ عـن خيارات أفضل).. صرتُ أحفظ الدّرس.

بعدَ قليل، كانت أجسادٌ كثيرة واقفة في تبرّم صارخ في ممرّاتِ الناقلة. كم أنا محظوظ هذا اليوم! قـد سافرَ العديدون بالأمس (ظناً منهم أنّ اليومَ العيد) لذلك وجدتُ مقعداً في قطار الجنوب والأجواءُ عْـواشْر..

عُدتُ إلى الكتاب. قرأتُ، ودابّة الحديد تقتل أولى دقائق السّاعات الثلاث (المفترضَة، ما لم يحدُث عطب طبعا) للرّحلة..
الفصل الثاني -مَراتبُها وأسرارُها*
1- مَراتب الحُرُوف
قبل الحديث عن مَراتِب الحُروف يجدر بنا الحديث عن مَخارجها وعن ألقابها. فما هذه المَخارجُ والألقاب؟ وما الأسُس التي بُنيتْ عليها؟

إنّ للحُروف ستة عشر مَجرَجاً.، ثلاثة منها للحَلق وثلاثة عشر للفم. كما أنّ لها أربعة وأربعين لقباً، منها الحُروف المهمُوسَة، والحُروف المهجورة، والحُروف الشّديدة، والحُروف الرّخوة، والحُروف الزّوائِد، والحُروف الأصلية، وحُروف الإبدال، وحُروف الإطباق، وحُروف الاستعلاء، والحُروف المنفتحة، وحُروف الاِستفال، وحُروف الصّفير، وحُروف القلقلة، وحُروف المَدّ واللين، والحُروف الخفيفة، وحُروف العلة، وحُروف الإمالة، وحُروف الغنّة، والحُروف المكرَّرة، والحرْف الجرَس، والحرْف المُستطيل، والحرْف المُتفشّي، وحُروف الذلاقة والحروف المُصمتَة.. وما إلى ذلك من الألقاب التي تنبع من مكانة الحرْف ووظيفته، وآلةِ أدائِه ومرتبته..
ورغم تعدّد ألقاب الحُرُوف ووظائفها، فإنّ مَراتبَها لا تخرج عن ثلاث، وهي:
أ- الحُروف الفكرية (= الخياليّة)
ب- الحُروف اللـّفظيّة (= النفسيّة)
ج- الحروف الرّقمية (= البيانيّة)
وهذه الأخيرة على درجتَين..
(……….)
(……….)
(……….)

في الفقرتين الأخيرتين بدأتِ “المشاكل”.. قلتُ لي، شامِتاً من قصوري. “الحُروف الرّقمية؟!”.. سألتُني، والنومُ يقترب ويقترب، والدّابة لا تكفّ عن إصدار هديرها المُزعج وهي تطوي المسافات نُزولا نحو جنوب الرّوح..
~
*أبجدية الوُجُود -دراسة في مَراتِب الحُرُوف ومَراتِب الوُجود عند ابن عرَبي، أحمد بلحاج أيت وارهام –منشورات أفروديت، الطبعة الأولى، ص. 43

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *