عبد الرزاق بوتمُزّار

اليـوم الـ24

 

كان السّباق قد بدأ منذ السّاعات الأولى للنهار. هات ما لدَيك. اطحنْ أعصابَك وأتلِفْ ما تبقى من ذرّات الكيان والنّظر وأنْهِ المطلوب.. ولكَ، بَعْد ذلك، أن تتأبّط حقيبتك المتأهّبة وتصعدَ قطارَ الجنوب إنْ شئتَ..

في السّابق، ما كان هناك من “مُشكلة”. أمّا وقد انضافتْ مطبوعة “المساء الرّياضي” إلى لائحة الالتزامات فقد صار الانتهاءُ من قراءة هذا الكمّ الهائل من “الموادّ” في الوقت المُحدّد للسفَر غاية لا تُدرَك، وإن أُدرِكتْ فبمشقّة النفس، والجسدُ مُنهَك والبصرُ مضرور..

في كلّ الأحوال، كان وُجودي في المحطة قبل الثالثة عصرا ضرورة حتمية. إنْ أنا لم ألحق قطار الثالثة سيكون عليّ أن أنتظر ساعتين كاملتين، وربما (أو في الغالب) أكثر. موعد الرّحلة الموالية الخامسة مساء، وإنْ أنا صعدتُ قطار الخامسة سأفطر -لا محالة- في دابّة الخليع..

لا مناص، إذن، من الانتهاء من “تَمّارَة” قبل الثانية. يساعد “إيقاع” الشّهر كثيراً في إنجاز العمل في وقتٍ أقلّ. فمنذ ولوجـِك القـاعـة وجلوسكَ إلى جهـازكَ وأنتَ تعجن في الحروف والكلمات. لا مجالَ لتضييع دقيقة واحـدة، فلا فطور ولا غداء في أفق الانتظار، ولا أنت تحظى بامتياز قطع أمار البهو الطويل، لتدخّن في نهايته سيجارة من حين إلى حين..

في القطار ارتميتُ فوق أول مقعد. سألتُ، وأنا أدلف إلى المقطورة، إنْ كان شاغرا.. لاحظتُ أنّ سيدة تجلس “نائمة” عـلى كتف زوجها تنـظر إلي نظرات حادة.. كان هناك طالب وطالبة صغيرَا الحجم بكيفية لافتٍة يجلسان إلى جنب بعضهما البعض في مقعدين من الأربعة المُقابلة لي. في المقعدَيْن الآخَرين، اتكأتْ هذه السّيدة المُكتنزة على زوجها المسكين وهي ترمُق الجميع بنظرات “شاعْلة”.. (يا رْبّي السّلامة) قلتُ لي، وأنا أسحب كتابا وجريدة من محفظتي.

تصفّحتُ عناوينَ عدد الجُمعة من الصحيفة ودفنتُ رأسي في صفحات الكتاب. كنتُ قد قرّرتُ الانتهاء من هذه الأضمومة في هذه الـرّحلة. لكنْ ما كُلّ ما يتمنّى القارئ يُدركه.. في محطة “الوازيسْ” دلفتْ سيدة مرّاكشية “ثقيلة” إلى المقطورة وقالتْ، دون سابقِ إشعار ولا حتى سلام:
-الخوتْ، اللهْ يْرحم الوالدينْ، أنا راهْ عْندي “كارتْ پّـرِيُوريتيرْ” وْخاصّني نگلسْ..

قالتها وهي تمدّ يدها إلى محفظتها، تُخرج منها الوثيقة التي تحدّثتْ عنها. اكتفيتُ بالتحديق في المسكينة. (لو كانتْ لديك حتى كارتْ بلانشْ” لا أظنّ أنّ أحدَهم سيقبل أن يُخلي لكِ مقعده فـي هذا الصّهد والزّحام).

قام الطالب الضّئيل من مقعده، مُخيباً ظني، وترَكه للسّدة..

-ليس لأنّ لديك “carte prioritaire”، وإنما لأنّ من عادتي أن أدَع أمثالك من المرضى يجلسون.

قال لها “الفَرْخ” الصّغير وهو يعاينها تنزل بجُثتها الضّخمة قرب مرافقته، التي بدتْ وكأنّها ازدادتْ اضمحلالاً في مقعدها.

كان واضحا أنّ السدة من بنات مُرّاكش -القاع.. بعد لحظة وجيزة، قالتْ لمسافر يجلس قبالتَها، يتصفح صحيفة:
-عفواً، هل يُمكنُني أن أستعيرَ منكَ هذه الصّفحة. أودّ أن أقرأ هذا الخبر.

قالتْها وهي تمدّ يدها نحو الصحيفة. لم يجد المسافرُ الشابّ بدّا من تحقيق رغبتها. فصَل الصّفحة عن البقية وناولها إياها. (آه يا جرائدَ وطن لا يقرأ).. قلتُ لي، وأنا أعاين هذا الفصل الجديد من تحقيق شعار “صحيفة لكل مواطن”.. ضحكتُ للمقارنة المُستحيلة بين الواقع والمأمول. وتبادلتُ نظرة ذاتَ معنى مع الرّجل الجالس قبالتي وزوجته في حضنه..

بعد جملتها الأولى، لم تصمُت هذه السيدة لحظة واحدة إلا وقد توقّفت الدابّة الحديدية في محطّة مُراكش! عرفنا عنها كلّ شيء في هذه الثّلاث ساعات ونصف التي استغرقت الرّحلة.. عرفنا أنّها تملك سيارة وأنها لم تعد ترغب في السّياقة. أنّها تاجرة جملة وتملك منزلا في مراكشَ وشقة في الدّار البيضاء ودارا في إفران.. عرفنا أنّ أفراد عائلتها لم يبيعوا منزلهم في “لْقصورْ”، في المدينة القديمة، بخلاف ما فعلتْ أغلب العائلاتِ المـُرّاكشية في فورة “اشتعال” أثمنة العقار في مراكش…

عندما توقـّفت النّاقلة في آخر محطّاتها، ألقيتُ نظرة على الكتاب أمامي وأنا “أعلم” الصّفحة التي توقفتُ فيها.

وللأمانة، لم اقرأ كثيراً في رحلتي هذه (سيري يا اللي كانتْ سْبَبْ اللهْ يْعطيكْ اللّقْوة).. قلتُ لي، وأنا أغادر القطار بحثا تاكسي يُقلّني في اتّجاه المْحاميدْ..

..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *