عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 23

الرّجوع إلى الأصل.. أدبٌ!

ذات صباح، كنّا نتابع حصة دراسية ضمن شعبة التّاريخ والجغرافيا. إلى جانبي كان يجلس محمّد، أحد رفاق الدّراسة منذ الطور الإعدادي. “تورّط”، بدوره، في التسجيل في هذه الشّعبة الطريفة أمام غياب خيارات أخرى تستجيب لمؤهلاته وقدراته. في ذلك الصّباح البعيد من مطلع التسعينيات، كان الدّرس يسير سيراً طبيعيا، قبل أن يُقرّر الأستاذ المحاضر، بغتةً، أن يُعكّر صفوَ مزاجي..

قام وتناول مسطرة طويلة وشرع يرسم خطوطا ويُحدّد ونُقطاً افتراضية على السّبورة الكبيرة. كنّا في درس “تطبيقيّ” لأحد تفرّعات مادّة الجغرافيا. عندما طلب منا الأستاذ أن نُخرج أقلامنا ومسطراتنا و”دفاتر الرّسم” لنُجيب عن أحد أسئلته، من خلال رسمِ ما شرَحَ لنا، تبادلتُ مع صديقي محمد نظراتٍ ذاتَ معنى. كان يعرف جيداً نُفوري المرَضيّ من لغة الأرقام والتحديداًت. وبينما وضع صديقي مسطرته على الصّفحة المُخصّصة للرّسم في دفتره، وقد شرع الأستاذ يطوف على صفوف الطلبة، يُراقب ما يفعلون، انحنيْتُ على صديقي وقلتُ له هامساً:

-نلتقي في ما بعدُ، وأشرح لك!..

سحبتُ أدواتي من على الطاولة وغادرتُ المدرّج في هدوء. صعدتُ بعض الأدراج وانسللتُ، عبر باب خلفيّ. وقبل أن أختفي، بادلتُ صديقي بعضَ الإشارات والنظرات، لأتركه غارقاً في نوبة من الضّحك. أدرَك ما أنا عازمٌ على فعله. لم أكن أحتاج إلا إلى مثلِ ما وقع لكي أقتنع، تماماً، بأنّني لم أُخلَق لدراسة “علمٍ” اسمُه تاريخ أو جغرافيا، خُصوصاً إذا كانت تفوح من أحدِهما رائحةُ أرقامٍ وحسابات.

قصدتُ، مُباشَرةً، مصلحة الشّؤون الطلابية؛ طلبتُ ورقة لأعبّئها، مُضمّنا إياها طلباً بتغيير الشّعبة. من حُسن حظي أنْ كان الوقت لا يزال يسمح باتخاذ مثل ذلك القرار.

في صباح اليوم الموالي، التحقتُ بطلبة شعبة اللغة العربية وآدابها. قلتُ بيني وبين نفسي إنّ ذلك القرار أفضلُ، على كلّ حال، من “التخصّص” الذي تركتُ. فكرت في ذلك الزّميل الذي سأجده في انتظاري في مُحاضَرات الشّعبة الجديدة. سيكون أكبرَ المُرحّبين بعودتي عن “غيّي”. رغم ذلك، وجدتُ تلك العودةَ أفضلَ من إجبار نفسي على تحمّل مثل تلك المُحاضَرة التي غادرت أمس.

كان من جميل حظي، أيضاً، أنهم وضعوني في فوج غير الذي أُدرجَ فيه اسم زميلي “اللصيق”، الذي كان -لا محالةَ- يُمنّي النفسَ بأنْ تجمعنا مقاعد الدّراسة إلى الأبد. عندما واجهَني بخصوص سرّ عودتي إلى الأدب، لم أعرفْ كيف أشرح له الأمر. والحقّ أني لم أكن أريد أن أجرحه وأفصح له عن حقيقة مُناورتي.

في شعبة اللغة العربية وآدابها، كنّا حوالي ألف طالب، مُقسّمين إلى عدّة أفواج. في بعض المُحاضَرات، كنّا نلتقي جميعاً في مُدرَّج واحد. خلقٌ كثير يهجمون على الكراسي الطويلة التي تُؤثث المدرّجات.

وكما توقعتُ تماماً، كانت مُحاضَرات الأدب العربي أرحمَ بي كثيرا من سابقاتها في التاريخ والجغرافيا، والجغرافيا “التطبيقية” على الخصوص..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *