عبد الرزاق بوتمُزّار

اليـوم الـ22

الثامنة والنّصف. الصوتُ الأنثويّ الغبي المنطلق من الهاتف لا يملّ من تذكيري بأن علي الاستيقاظ، فالساعة تشير إلى الثانية وخمس وثلاثين دقيقة.. قطراتُ العرق فوق الجسد العاري تشي بأنّ اليوم سيكون مُصهداً. طيفُ ذبابة عاقـّة يجوب الغرفة. ربّما تكون قرصة من هذه الحشرة الكريهة ما أيقظني قبل صوتِ المُنبه بخمس دقائق. لم يكن لدي الوقتُ لمُطـرَدة الحشرة البليدة. كان “طنجيتانوس” مُلقى قرب الجهاز الأسود الأخرس. لم أنمْ ليلة الأمس إلا وقد انتهيتُ من مسرحية بن بوشتى.. في المساء، وقبل الغفوة المعتادة برمجتُ أن أغوص في “الظلمة”، رُفقة برما..

مفتاحٌ يدور في مزلاج، نزولُ أدراج، الشّارع. كانتْ أشعّة الشّمس قد تمكنتْ من أرجاء المدينة المُجللـة ببياضٍ غير ناصع.. القبعة تحمي النافوخ من السّياط المُسلّطة من فوق. بشرٌ قليلٌ في الدّرب. يُحاذون الحيطانَ بحثا عن ظلّ شحّيح. وبحثا عن ظلّ شحيح، حاذيتُ الحيطانَ الآيلة لدْرب بوطويل، صعودا نحو عمارات المدينة الأنيقة، في الجهة الأخرى لسور العزل..

عرّجتُ على السّويقـة. واصلتُ عبْر أزقتها الضّيقة. رائحة النعناع سيّدة المكان. لكنْ، حين تمرّ بمحاذاةِ بائع دجاج حيّ ستكتشف أنّ رائحة النعناع ليستْ بكلّ تلك القوة.. أحسّ بأمعائي، وما حَوتْ، تصعد دفعة واحدة نحو حلقي حين أمرّ قربَ بائعِ دجاج حيّ..

وقد رمانِي السّور، قطعتُ الشّارعَ الأولَ بسلاسة غيـر معتادة. (شيءٌ ما يجري). قلتُ لي. آه، إنه عيد العرش. (مـا كايْنة خْدمة إذن، داكشّي عْلاشْ)..

المدينة -الغول تبدو -في مثل هذا اليوم- وكأنْ قد رحل عنهـا الغُول.. حركة سير خفيفة للغاية. بشرٌ أقـلّ. أنتَ من قبيلة الكائنات التي كُتب لها ألا تـضع في حسبانها، كبقية خلق الله، راحة في مثل هذا اليوم أو في غيره إلا ما رحم ربّي.. واصلْ طريقك إلى العمل، إذن، دون أن يشرُد منكَ الخيال. أليس العملُ عبادة!..

في حدود الثالثة، انتهى يوم العبادة، العمل أقصد..
الرّابعة ودقائق. غرفة صامتة. وحدة وفراغ. كتابٌ بغلاف أسْودَ ينتظر دورَه قرب الوسادة. وحين أضـع الرّأس على وسادة والشّهرُ صيام، اعتادت ألا تتأخر في الحضور، نومة ما بعْدَ العصر..

شيءٌ ما يُلامس الجزءَ العُلويّ من الجـسد العاري في صمت غرفـة وحيدة. آه من هذه الحشرة اللعينة. (يبدو أنْ هذا يومُها).. قلتُ لي، بابتسامة شرّيرة، وأنا أقوم لغسل وجهي. بعد الانتهـاء من بعض الواجبات اليومية المؤجَّلة، عدتُ إلى “عين الظلمة”.. (الذبابة اللعينة تكسر هدوءَ المكان، بتحليقها المستفزّ). بحثتُ بعينيّ عن “مضرب” كنتُ اشتريته فقط لتصفية عشيرة الذباب وما جاور.. عدتُ إلى الكتاب، وعينايَ تراقبان، بين جملة وجملة، حركات الحشرة العاقة..

“انتهى ماراطون النهار.. التأم شملُ المُتعَبين. توزّعُوا حول موائد المقهى في حلقات تحافظ على نفس الأعضاء والأسرار. تدخل الأجسادُ طقس غيبتها اليومية. ضبابٌ رماديّ يحتلّ الجماجم. عيونٌ حائرة تستعيد تفاصيلَ لا معنى لها. تقول ما عندها. والرّأي، في الأخير، رأيُ الجماعة دون نـدم ولا اعتراض..

بنفس الخطوات ونفس الميقات، توافَد الهاربون من فداحة اليوميّ. استقبلتهُم الكراسي وموائدُ انتشرتْ فوق العشب، تحت أشجار الكاليبتوس وأعشاش طيور أضربتْ عن الغناء منذ مدّة غير قصيرة..

اكتملت الدّائرة وامتلأتْ المائدة بالمطلوب. ودُون إعـدادٍ ولا انتظار مُقدّمات، انفكّتْ عقدة لسان “ابن مُعاوية”، هو الأول. اختفتْ من كلماته القليلة أبخرة حنينه الخرافيّ، التي يُعطّر بها حواشي حكاياته الأبدية عن الجنيات الشّبقيات الرّاقدات في قصور التّيه واستيهامات السّراب. واليومَ قال:
-لا شيءَ عندي يستحقّ النظرَ أكثرَ من الذي وقع.. والحسمُ في ذلك واجبٌ ومؤكّد!
غمَرَنا فـُضول المُتفرّجين المتوقـَّعُ. دفعة واحدة، سألناه: “ماذا وقع؟ وأين؟ وكيف؟ ولمن ولماذا؟”..
قاطع الجميع. طلبَ الانتباهَ، وأضاف:
-أسئلتكم قيودُنا. وما بين البداية والنهـاية كارثـة أصابتِ العشيرة. طوّحتْ بها إلى ذلك الجحيم اللّعين من الوساوس وهيجان الثيران المجرورة نحو حلبات الذبح والوزيعـة. ولا شيءَ سبقَ في الألم كالذي حدَث وسيحدُث. ولمن؟ للذي لا يمكنُ لكم تصوّرُه، للأب الطاعن في السنّ، للشّيخ الكبيرِ رأس البلاء وأصل الهموم التي تتحرّك..

تسابقتِ الجمل. بدتْ حرقة الكلمات غريبة المذاق. وأدركت الجماعة أنّ “ابنَ مُعاوية” في حاجة طارئة لتسويدِ جلستنـا بأحـزانٍ جـديدة بعث بها سلفُه غيرُ الصّالح لتُفكرَ في عيش الزّبالةِ وتتدبّر..
(……….)
(……….)
(……….)

أحكمتُ التسـديدَ، وقد ركّزتُ جيدا. كانتْ، بجسدها الضّئيل النّجـِس، تـتراقص فـوق أصابع قدمِي. كانتْ ضربة مُوفّقة..

“طيور أضربتْ عن الغناء منذ مدّة غير قصيرة”..

فلتُضربْ عن الدّوران حول هدوئي المسائيّ هذه الحشرة اللعينـة، إلى الأبد. دفعـتُ جسد الذبابة (لا أدري لماذا قلتُ لي إنـّه ذكَر) اللّعينـة بطرفِ المِضرب. الأصواتُ في السّويقة بدأتْ تتكاثر. غيّرتُ ملابسي. نزلتُ الأدراج. سرتُ في زقاق ضيّـق. دلفتُ إلى ريستُو الحيّ الخلفي، حيث تنتظرُني سمكاتٌ ستّ وحبّتا فلفل أخـضـر..

..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *