إعداد: عبدو المراكشي

هي أسماء كثيرة حلّقت بعيدا عن أرض الوطن لتصنع تاريخها في المهجر. من الرياضة إلى السياسة، فالثقافة والبحث العلمي والاقتصاد وعلم الاجتماع.. أسماء لمعتْ في شتى الميادين، فرّقتها الجغرافيا ووحّدها اسم المغرب.. ونقدّم لكم لمحة عن بعضهم في هذه الفسحة الرمضانية.

 

من دار الأيتام إلى طائرة الرئيس الأمريكي.. هكذا عنوان حسن البصري مقالا نشره في المساء (عدد 03 -09 -2009) عن ضيف حلقة الليلة من قصص أسماء مغربية سطعت في المهجر.

سيبدأ مساره المهني من ملجأ الأطفال في فاس. كانت تربطه، بحسب المصدر ذاته، علاقة مميزة ببعض نزلاء “الخيرية” وأطرها التربوية، القريب مقرها من مسقط رأسه في حي بوعقدة، في محيط “باب الخوخة” في العاصمة العلمية.

لم يتردد محمد العلمي في التخلي عن التدريس وتغيير مجرى حياته المهنية رغم من المكانة الاعتبارية التي كان المدرّس يحظى بها في المجتمع المغربي.

سيقتحم محمد العلمي بلاط صاحبة الجلالة مستحضرا صوت مذيع راديو «صوت العرب». ثم تحوّل من الإعلام المكتوب إلى المرئي -المسموع، بعد أن حجز لنفسه مكانة بين كبار الإعلاميين في المغرب، قبل أن يرحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

“ظلت اللمسة الإنسانية حاضرة في كيان العلمي الإنسان والصحافي، فصورة دار الرعاية لم تبارح مكانها في مخيلته، لذا عُرف بعطفه على الآخر ومساعدته مهما كانت الظروف”.

كان لتجربة “باب الخوخة” دور محوري في بناء شخصية العلمي، الذي تعلم أن يعتمد على نفسه. وظل الوازع الإنساني فارضا نفسه في حياته المهنية أكثر من غيره، ولو “اختلف” مع هذا أو ذاك بسبب مهنيّ هنا أو عقائدي هناك..

مراسلاً لقناة «الجزيرة» في واشنطن، ورغم ضغط الأجندة المهنية، لا ينسى العلمي أبدا ذكريات الطفولة وحكايات «المحراب الخيري»، إلى درجة أن أسماء العديد من رفاق «الفترات العصيبة» ظلت ترافقه في مراحل حياته، بنفس حضور مذيع راديو «صوت العرب» في ذاكرته حيثما حلّ أو رحل.

فقدَ العلمي والده في سن مبكرة، فاضطر إلى العيش مع العم، قبل أن ينتقل إلى ملجأ الأيتام “باب الخُوخة”. لكن تلك التجربة لم تقف حائلا دونه ومواصلة مسار بدأه مدرسا، قبل أن يلج محرب صاحبة الجلالة.

لكنّ حجرة الدرس، رغم عشقه الأدب وعوالم تدريسه، صارت أضيقَ من أن تسع أحلام العلمي فكانت الهجرة إلى أمريكا..

في بلاد العم سام، دشّن عمله الصحافي في أواخر الثمانينيات (1989) في إذاعة محلية للجالية العربية في أمريكا، قبل أن ينتقل إلى “صوت أمريكا”، ومنها إلى تلفزيُون “أبوظبي”، الذي كان مرجعا إخباريا حينذاك. ثم التحق بقناة “الجزيرة”، مراسلًا من العاصمة واشنطن، وهو المنصب الذي ما زال يشغله حتى الآن.

راكَم العديد من التجارب المهنية في أشهر المنابر وأوسعها انتشارا، لكنْ في نظره يبقى الرضا التام “أمرا مستحيلا”، فذلك يعني نهاية الطموح ونهاية التعلّم، وبالتالي نهاية الحياة.

في سؤال عن البدايات في الصحافة، أجاب العلمي، في حوار مع “الأيام”، بأنها كانت مع ميكروفون في إذاعة “الشبكة العربية الأمريكية”، في نهاية الثمانينيات في “ميرلاند”، قرب واشنطن؟

بعد خمس سنوات مدرّسا للعربية في الأقسام الإعدادية في كل من الدار البيضاء وقرية بّا محمد) أتيحت لمحمد العلمي إذن فرصة تحقيق حلمه وتلك الصورة التي لم تفارقه أبدا خلال حرب 67، حين كان طفلا في السابعة يعيش في بيت عمه، الذي كان “مهووسا” بالأخبار إلى درجة أنه خلال تلك الحرب أصاب المذياعَ عطب فكانوا يخرجون معه عند بقال الدرب للاستماع إلى النشرات الإخبارية.

ورافقتْ هذه الصّورة في ذهنه “سلطة معنوية”، كما وصفها، كانت لمذيع “صوت العرب” على مشاعر عمه وتنعكس على ملامحه.. في تلك اللحظة، ربما، قرّر العلمي أن أكون صحافيا. وقد يكون دافعه إلى ذلك رغبة دفينة في أن ينال “رضى” العم، الذي كان بمثابة والده، والذي لم يُكتَب له أن يشهد تحقيق الحلم. وافت المنية العمّ قبل أن يلتحق ابن أخيه بإذاعة “صوت أمريكا”..

في مهنة ما تفتأ تأكل أبناءها، عاش محمد العلمي أياما عصيبة، “أخطر ما فيها، كما قال في حوار صحافي، أنك تشك في نفسك وفي قدرتك على الحكم على الأشياء، خاصة حياتك المهنية.. وأذكر أنني عانيت من حالة أرق مخيفة وهي من أصعب الحالات النفسية التي يمكن أن تصيب المرء، لأن كثرة التفكير في مصيبتك تفقدك أحيانا التركيز في أنجع الوسائل للخروج منها.. لكن كل ذلك صار من الماضي وجزءا من تكويني النفسي والوجداني يجعلني أكثر تعاطفا وتفهما لأحوال الزملاء والأصدقاء الذين يمرون بالتجربة نفسها التي يبدو أنها جزء من طبيعة المهنة”..

 

مهنة أخذته من حُومات فاس العتيقة، حيث تشرّب قيم التضامن والتآزر والإنسانية وحيث تعلّم أيضا روح المبادرة والاعتماد على النفس. مستندا إلى كل ما راكم من خبرات المدارس والجامعات والشارع أيضا، واصل محمد العلمي درب التألق في سماء واشنطن

.

هكذا التحق بـ”الجزيرة” بعد تجربة “أبو ظبي” في 2004. وبين أول تقرير مطول أنجزه لهذه المحطة (وكان عن الأقباط المصريين المعارضين) أثار محمد العلمي دوما مواضيع “تُغضب”. فكما غضبت الحكومة المصرية آنذاك عن تقريره الذي أنجزه بمناسبة الانتخابات وقدّم فيه تغطية لمؤتمري الحزبين والحملة الانتخابية، إلى يوم التنصيب، مرورا بيوم الاقتراع، ما زالت تقارير العلمي وحواراته تُغضب هذه الجهة أو تلك.. لتتواصل رحلة العلمي في بلاط صاحبة الجلالة اسما مغربيا لامعا في سماء واشنطن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *