عبد الرزاق بوتمُزّار

 

اليـومُ الـ18

الخامسة صباحا. حركة غيرُ عادية في الغرفة الصّغيرة. أنظر صوب الباب. كائنٌ في حجم عصفور، جاثيا على رُكبتيه ويديه، يتطلع إلي في غبش الصّباح. إنه زهير، آخر العنقود. كان نائما قرب أخويه وأمّهم في بهو الدّار. وبما أنه نام قبلنا جمـيعا بساعـات، فيبدو أنه قد “شبع نعاسْ”، في الوقت الذي كنتُ بالكاد قد انخرطتُ فيه.. أشرتُ إليه بيديّ أن اقتربْ. تحرّكَ نحو السّرير مُبتسما. رفعتُ جسده الصّغير نحوي وقبّلته. آهٍ، صغيري، ما هذا الامتياز الاستثنائي الذي تمنحني؟ أن أفتح عينَيّ في هذا النهار على وجه الملائكة!..

أفضل النوم وحدي في الغرفة الداخلية تفاديا لصهد السّاعاتِ الأولى، وأيضا تفاديا لشغب الصّغار، الذين اعتادوا الإبكار.. لا أحبّ الاستيقاظ مبكرا في هذا اليوم بالتحديد.

الإفطارُ الليلةَ في الطرف الآخر للحيّ، خلف المطار، في أزْلي الجنوبي. لا شيءَ يدعو إلى العجلة، إذن، في أركان العُشّ الصّغير. فليطُلْ سبْتكِ، أيّتها المدينة اللاّهثة. لا أشبع من هذي اللحظات..

كنتُ (من لهفة؟) قد نسيتُ، صباحَ الجمعة وأنا أجمع أغراضَ السّفر، شاحنَ جهاز الحاسوب في الغرفة الباردة وخرجتُ مودعاً جدرانَ وحدتي هناك، عـلى أمل السفـر جنوبا في آخر النهار. وبطارية هذا الجهاز العجوز لم تعد تحتفظ بالطـّاقة أكثرَ مِن نصف ساعة. وإلا كنتُ جلستُ أخربشُ البداياتِ لليوم “السّابع عشر”!.. لا مُشكلة. هي فرصة لأؤجّل مشقة البحث عـن بداية للحكاية إلى موعد لاحق. شغبُ الصغار حكاية بألف كلمة..

العاشرة. يبدأ مهدي، أولا، تحيّته الصّباحية وهو يحُكّ وجهه بذقي، باحثا عـن كلمة سحرية أهمسُها في أذنيه فتجلجل ضحكته العذبة في الأرجاء. يتبعه إلياس قائلاً، بلكنته المحبوبة:
-أنتَ هو لاّ..
-أنا هو إيّييهْ..
وحين يقترب زهير، وهـو يحبو، متطلعا إلى مسـرحيتنا الصّاخبة، تتوقـّف كل عقارب ساعات المدينة عـن الدّوران..

الثانية عشرة. جسدٌ مُشتعل تحتَ مياه باردة. اليومُ ليس بكلّ الحرارة المُتوقعة، على ما يبدو. باستثناء اليـوم الأول مـن رمضـان، كانتِ الأيامُ الأخرى “عادية” في حرارتها. لو كان الجو بالدرجة المُنتظرة ما كنتُ نمتُ حتى العاشرة في غرفة تحت رحمة شمس مُرّاكش. ثمّ ما كنتُ “انتقمتُ” من النوم في أوقات مُتفرّقة من النهار.. مقياسي لمعـرفة طبيعـة المُنـاخ هذا الجسدُ المنهك خسارات ومَلاحمَ.. في مُناسبات كثيرة كانتْ حرارة المدينة تمنعُني من مواصلة النوم منذ الساعاتِ الأولى للصّباح. التاسعـة هي أقصى سقفي من النـومِ فـي مرّاكش وهـي في عزّ حرارتهـا. أمّـا وقد نمتُ وقتما شئتُ (فقد كان ربّكَ بعباده اليوم رحيما)، قلتُ لي..

الرّابعة والنصف. تذكير من الصوت الآليّ بأنه قد حان الوقت. حالة “استنفار” في البيت الصّغير القائظ: ثلاثة صغـار سيبدّلـُون ثيـابهُـم. (سيبدّلـون؟) قـُل: ينتظرُون مَن يُبدّلَ لهم.. وابحثا، أنتَِ وأنتَِ، عن قطعة القماش هذه لهذا وعن تلك لذاك..

مهدي كان الأسعدَ بهذه الزّيارة. لديه ذكريات خاصّة في محيط منزل عمّه. هُنا كان قـد أطلق تسميته الخاصّة على الطائرة. كلمةٌ ظلّتْ محفورة في ذاكرتنا المشترَكة “تُولـُوسِي”..

وصلنا في حدود السّادسة والنصف. لم تستقبلنا رائحة مسكِ الليلِ مـن الحديقة الصغيرة، كمـا دأبها.. هـل حتى أزهـارُ الحدائقِ والأشجار منذورة للصّيام؟.. (هربتُ أفكاري المجنونة) وسرتُ بهـا في هـذا الاتجاه: كنتُ قد صحبتُه، يوما وهو صغير، إلى هُنا. وصادفَ أن مرّتْ طائرة أقلعتْ من المطـار القريب. نظر صوبها مهدي وصاح:
-بابَا، شُوفْ “تـُولـُوسي”..

ومنذ ذلك اليوم صـرت الكلمة أحد مفاتيح علاقتهِ بالمكان.
بعد أن صافحتُ ربّة البيت ودخل الجميع أغلقتُ دونهم الباب واستأذنتُ بنتَ الخالة في العودة بَعْد دقائق. (جينا جينا اللّهم نـْشوفـو واحْـد الصّديق) قلتُ لي، وأنا أستحثّ الخطى نحو محلّ محمّد، غير البعيد، لـولا أن تبدّلتْ عليّ (قـليلا) جغـرافيا الفضاء: بناياتٌ إضافيـة في طورِ التـّشييد وجـُدرانٌ علتْ، غطّتْ عـلى شـوارع المدينـة التي كنّا نعرف.. (هل يواكبُ طفرةَ العُمـرانِ هذه طفراتٌ في الميادين الأخـرى أم إنْ هي إلا جدرانٌ تعلو وإسمنت يتمدد؟) سألتني، وأنـا أعـرّج يميناً صـوب شـارع كدت أتوه عنه..

بعد السّـؤال عـن الحال والأحوال والاطمئنان عـلى الصّحة وبعـض أمور، ودّعتُ صديقي، مُرغماً. لضيق الوقت فقط، قلتُ له وقال..

وقبـل أنْ ألُفّ يمينا لأخرُج إلى السّاحةِ التي تفصلُ الحيّيـْن لاحَ لي، بين صناديقَ، كرمُـوس المُسلمينْ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *