عبد الرزاق بوتمُزار

 

ح. 16

عندما “ثـُرنا”..

شهِدتْ تلك السّنة من بداية التسعينيات، ضمن ما شهدت من أحداث ووقائعَ، حدثاً سياسيا طبع ذاكرتنا الجمعيةَ وترك آثاره في شخصياتنا؛ وإنْ بدرجات مُتفاوِتة. شكّل ذلك الحدث بدايةً لتوجّهات السّياسة الدّولية في تحديد أولوياتها ورسم معالم النظام العالميّ (المُتوحّش) الجديد. فما إن توسّطَ الموسم الدّراسي، في مطلع تلك التسعينيات البعيدة، حتى كان سادة القرار في البيت الأبيض، بزعامة بوش -الأب، قد حسموا في أمر التعامل مع المُكنّى (قيدَ حياته) “أسد تكريت”.

كان صدّام حسين قد تجاوز جميعَ الحدود في نظر صُقور السّياسة الأمريكية؛ ومن ثَمَّ، قرّروا الانتقال إلى مرحلة الهجوم العسكريّ، بعد أن استنفدت القنوات الدّبلوماسية جميعَ سبلها، المشروعة وغير المشروعة، في محاولة السّيطرة على الوضع وجعْلِ الرّئيس العراقي يتراجع عن مواقفه، التي بدا أنها جريئة ومُشاكسة أكثر ممّا تسمح به “قشّابة” ماما أمريكا ورضيعتها إسرائيل، التي تجرّأتْ عليها صواريخ صدام، وخاصّة تصريحات السّاسة العراقيين؛ وكانت خطابات محمد سعيد الصحّاف أبلَغَ مثال لها.

وتفرّجْنا، آنذاك، على الموقف العربيّ المُتخاذل، وعايَنّا كيف اصطفّ أمراء البترو -دولار في طابور الهَوان وتملّقوا أمريكا وبقية “العلوج” وفتحوا لترسانتها العسكرية المَنافذَ، بَرّا وجواً وبحراً وَ.. لحْماً فجّاً دنّسه الجنود الأمريكان تحت خيامٍ عاهرةٍ نُصبتْ في صحارَى العرب المُتخاذلين.

كان هجوما كاسحا لم تستثنِ فيه عنجهية أمريكا وحلفائها صبيّاً ولا امرأة؛ شيخا ولا رضيعا. كانت الفظائع التي تصل أخبارُها من هناك فوق كلّ تصوّر: قتلٌ وتجويعٌ وحصارٌ واغتصابٌ لنساء الفُرات، لحضارة بابل.

وعكسَ موقفِ حُكّامها، توحّدتْ شعوبُ العرب (وغير العرب) على الشّجب والّنديد بالاعتداء الغاشم؛ فخرجت المُظاهَرات هادرةً في الشّوارع وبحّتِ الحناجر بالهتافات وبـ”لاءاتِ” الرّفض لكلّ ما تقترف أمريكا باسم الدّفاع عن كرامة دولة “صديقة” قرّر صدّام -ذاتَ فكرة- أن يُعيدها، كما كانت في خرائط التاريخ القديمة، مُجرَّد إقليم تابع لجغرافيا العراق..

كانت الأجواء، على العموم، محتقنة طيلة الهجمة الشّرسة التي شنّها الغرب على العراق، بزعامة أمريكا -جورج بوش. احتقانٌ في الشّارع وفي المدارس والثانويات؛ في الجامعات وفي المعامل. وبقدْر ما كان ذلك بسبب سياسة التقتيل في حق أبناء العراق وطفولة العراق، كان الاحتقان يعكس غضبةَ الشّارع “العربيّ” على أنظمته المُتخاذِلة، التي سارع العديدُ منها، على الخصوص في الخليج، إلى تسهيل مهمّة العُلوج لإبادة الشّعب العراقيّ، الذي كان عليه أن يدفع من دماء أبنائه وشرف بناته ونسائه ثمنَ خطأ إستراتيجيّ فادح ارتكبه الرّئيس صدّام بهجومه على “بلدة” الكويت ومحاولة “استرجاعها”.

ولأنّ السّاسة والحُكّام خافوا أن تنفلت الأمور وتخرج عن السّيطرة، فقد كانوا يبذلون ما في وسعهم لكي يحُدّوا من “فاعلية” المٌظاهَرات وتطويقها بكلّ ما أوتُوا من قوة ووسائلَ، بشريةٍ على الخصوص.

كانت ثانوية موسى بن نصير، كمثيلاتها، تشهد ما يشبه طوقا أمنيا يوميا؛ بل كثيرا ما تدخّلت الفرق الأمنية، بمُختلف ألوانها ومُسمّياتها، لتُطاردنا وتقمع مُظاهَراتنا في ساحة الثانوية. وأذكر أنّنا كنا، في مُناسَبات كثيرة، نُواجه قوات الأمن ونقف في وجه عناصرها بالمرصاد. أحياناً، لم تكن تنفعنا إلا سِيقانُنا، أو ما تبقّى، نُطلقها للرّيح هربا من هراوات فرقة “مُختصّة” يُلجَأ إليها في حالات الطوارئ، كنّا نطلق عليها اسم “الڭـُومْ”.

كان لمُظاهَراتنا داخل الثانويات زعماءُ يقودونها ويُوجِّهون بقية التلاميذ إلى الخطوات التي يتعيّن اتباعها لإظهار تعاطفنا مع أبناء الشّعبين العراقي والفلسطينيّ، الذين كانوا يتعرّضون لأبشع أنواع التقتيل والترهيب والتجويع. كنّا نُصعّد الوقفة أو نُهدّئ حسب ما يستجدّ من وقائعَ وأحداثٍ في البلدين، خُصوصاً في بلاد الرّافدَين، التي مرّغتْ أنفَ أمريكا -والحلفاء- في التّراب؛ رغم كلّ ما رصدتْ من إمكانات لم تُسعفها إلا في قتل النساء والعجائز والأطفال وجرّ المزيد من سخط وحَنَق الشّعوب “العربية” الهادرة.

خلال تلك المرحلة، تشرّبنا، ربّما رغماً عنّا ربّما، أول مبادئ الرّفض والثورة ضدّ واقعنا المُتخاذِل. داستْ أقدامُ المتظاهرين الغاضبين، في الثانويات والجامعات وفي الشّوارع، عَلمَي أمريكا وإسرائيل ورُفعت أشدُّ أنواع الشّعارات عداءً للعدَاء الغربيّ لأمّة “العرب”.

كنّا نمضي اليوم مُحاصَرين داخل جُدران الثانوية من قبَل قوات الأمن، بمُختلف تشكيلاتها. أحياناً، كنّا نُنظم مسيرات عارمةً في الشّارع، نتنقل خلالها بين جميع المؤسّسات المُجاوِرة. تَلحق بنا أفواجُ التلاميذ الغاضبين من كلّ مُؤسَّسة عليمية نمُرّ بها؛ لنمضيّ، مُجتمعين، صوب المُؤسَّسة التعليمية المُوالية؛ وهكذا دوالَيْك إلى أن نصل إلى ساحة ثانوية يعقوب المنصور. كانت تلك أقصى نقطة تسمح لنا بها قوات الأمن، التي تُرافقنا في كلّ تحرّكاتنا. لم يكن مسموحاً لمسيرتنا بأن تذهب إلى أبعدَ من حُدود حيّ سيدي يوسف بنعلي، مخافةَ أن تكبُر المسيرة أكثرَ من اللازم، بالتحاقنا بتلاميذ مؤسّسات أخرى خارج تراب العمالة.

كانت قوات الأمن تُرافقنا. تراقب تحرّكاتنا بتوجّس. يُسجّل مُخْبروها كلّ صغيرة وكبيرة عن المسيرات وعن زعمائها وقادتها، على الخصوص. وفي اليوم الموالي، كان هؤلاء الزّعماء الصّغار يُمنَعون من وُلوج أبواب مُؤسساتهم ما لم يُحْضِروا أولياء أمورهم؛ بل إنّ منهم مَن يتوصّلون باستدعاء رسميّ من قائد الدائرة الأمنية. وهناك، وبحضور أولياء أمورهم، يكونون أمام خيارَين لا ثالث لهما: أن يتخلّوا عن زعامتهم ويهتمّوا بأمور دراستهم أو يكون مصيرَهم الطردُ، بدون رجعة، من المدرسة! وتحت ضغط وليّ الأمر، المغلوب على أمره، يضطرّون إلى التنازل، مُكرَهين لا أبطالاً، عن خيار “الثورة” لصالح إتمام مشوار الدّراسة.. لكنْ، رغم التضييق ورغم توقيعهم التزاماتٍ تُفيد بتخليهم عن قيادة الوقفات والاحتجاجات داخل المُؤسسات، كان الكثيرون ينسون كلّ ما التزموا به بمجرّد ظهور بوادر احتجاج أو مسيرة في صباح اليوم المُوالي..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *