محمد الجلايدي

بأسلوبه الشيق يرحل القاص المغربي محمد الجلايدي بجمهوره عبر هذه القصة الواقعية، إلى عوالم الجريمة والعقاب وحياة أشهر خارج عن القانون بالصدفة الذي طبع الذاكرة القنيطرية ثمانينيات القرن الماضي، خاصة بمنطقة الباطيمات ودوار صحراوة و الرجاء في الله والعلامة… إنها حكاية ولد “لعسل رحمه الله ” الذي إشتهر بمول”شيان بوليس”.. يعيد المبدع الجلايدي سردها بأسلوب أخلص لجماليات فن الحكي، والقصة.. والبداية من هنا.

 

 

قالت الطبيبة ( المختصة في علم النفس الإجتماعي ) لسجين أحيل على الحبس الإنفرادي :

-بماذا تشعر وأنت معزول عن السجناء ؟

أجاب :

-أشعر بالسعادة تغمرني ..

استغربت الطبيبة لأن الجواب على عكس ما توقعت ، ثم أضافت رغبة في مزيد من الفهم :

-أرجو ألا تكذب ، فالعزلة تقهر !

أكد السجين جوابه قائلا :

-كنت أعيش حياتي داخل دماغي لا خارجه . وفي اللحظة التي خرجت فيها منه ، دخلت هذا السجن الذي سأقضي فيه قسطا كبيرا من العمر !

(…)

في مشهد حواري من فيلم، كان هذا الحوار. وقد حملني هذا المشهد الحواري،على إعادة صياغة فهمي لمعنى ( الخطإ ) . فليس كل خطإ كأي خطإ . وللإرتقاء بالمعنى إلى مستوى المفهوم بمدلول وجودي وفلسفي ، استحضرت القول المأثور، الذي استوحاه «أبو سناء » من قصيدة شاعر، وكان يردده في اللقاءات الخاصة والعامة ، كلما اقتضى السياق ذلك :

-إن غلطة الشاطر بألفٍ .

وتذكرت ، بعد هذا الإستحضار ، قولي الذي أعتبره لازمة تؤطر سلوكي ومسلكي :

-علمتني الحياة أن أحدد موطن القدم .

فالخطأ الواحد في لحظية محصورة في الزمان والمكان ، قد يقلب الحياة من الضد إلى الضد . ومثل هذه الأخطاء هي التي يسميها المشتغلون بالعراك السياسي :

-الأخطاء القاتلة !

(…)

أسوق ذلك ،لأستحضر نموذجا لتجربة حياة غيرية ، حدد مصيرَها خطأ واحد.ولحظة هذا الخطإ ، كنت شاهد عيان حين تبلورت ،وكنت من ساكنة الحي أتابع تداعياتها ، كما لو كانت فيلما سينمائيا ! ويتعلق الأمر ، بشاب من ساكنة أحزمة الفقر ب ( البراريك القصديرية ) التي تحمل إسم ( الدوار ) في لغة تداولنا اليومي . فقير بالكاد يحصل على اللقمة . جسور لا يتردد . يلعب القمار مع أقرانه ومع الكبار . لا يهاب العراك إن دعاه الأمر لذلك !

(…)

كنت ألعب الكرة مع أقراني بالساحة الرملية أمام الدكاكين التجارية ، التي سماها الناس : « المارشي » . وكانت هذه الدكاكين في مرحلة استكمال البناء يومها. جماعة من الشباب في رأس الزاوية اليسرى لهذه المحلات، تلعب القمار .فجأة ، تناهى إلى سمعنا أصوات عراك تتعالى ! أوقفنا اللعب ، وانشددنا إلى المشهد . جماعة ضد جماعة . وكل واحد يحمل في يده أداة عراكه . ولما اشتد الضرب على أصغرهم سنا ، أخرج سكينا وهوى به على من كان أقرب منه ، من خصومه . كانت الضربة من الخلف جهة الكلية اليسرى .صاح الذي انضرب .وفَرَّ الذي ضرب ومن معه .فيم اجتمع أصحاب الجريح عليه ،ليحملوه على وجه الإستعجال إلى المستشفى ،الذي كنّا نسميه ( سْبيطارْ الغابة ) ، واسمه الرسمي ( مستشفى الإدريسي)   !

(…)

يعلم السكان فيما بعد، بأن الجريح نجا من الموت.وأن الضارب،متابع من طرف الشرطة.والبحث عنه جارعلى قدم وساق .لكن القبض عليه سيتحول إلى مشاهد هوليودية من طراز أفلام الكوبوي:كَرٌّ وفرٌّ. ومعارك مع أفراد الأمن العلني والسري.وفشل متوال لكل المحاولات الأمنية.مما هزَّ سمعة الأمن،الذي اعتبرته الدوائر المسؤولة مَسَّا بهيبة الدولة.فصدر الأمر بالقبض مع استعمال الرصاص الحي.ولحيظة الإنجاز،لم تفتني كما لم تفت الكثير من أقراني.وكنا المصدر لحكي تفاصيلها للكبار،كما لو كانت نهاية (بطل) قبل إسدال ستار البث لفيلم تلفزي أو سينمائي.رصاصتان من الخلف !و”إطلاق الرصاص من الخلف” ،شكل موضوع تعاليق الناس،واختلافهم في مدى أحقية الرمي بالرصاص.فالمعنِي لم يكن في حالة مواجهة،بل في حالة هروب!

سأفهم من خلال هذا النقاش، مدى ولع الناس بالأفلام البوليسية،التي زدت من اهتمامي بها.حُكِم على الجاني بعشرين عاما سجنا نافذا.وعندما أكمل العقوبة الحبسية. خرج ثم عاد إلى السجن.ثم خرج مرة أخرى،لكنه خرج هذه المرة،منهارا جسدا وعقلا .ثم مات . وكما كان حديث الناس عنه حَيّا ، كان انشغالهم بخبر وفاته،باعثا على استرجاع فصول حياته !

(…)

ومثلما اهتمت به وسائل الإعلام المكتوبة حينما كان حيّا،خصصت لخبر وفاته رُكْنا،لكنه كان قصيرا جدا،وكان الخبر مرفوقا بمونشيط :

-مات الجوكي ..

 

محمد الجلايدي / القنيطرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *