عبد الرزاق بوتمُزّار

 

ليلْة النصّ

الثّالثة وبعض دقائق. انتهى دوام العمل لهذا اليوم.. كنتُ قد “زربتُ”، أمس، على بعض موادّ مُلحَق الرّياضة. ساعدَني ذلك كثيرا على أن أُنهيَ ما تبقى في الوقت المُناسب، رغم وصولي المُتأخّر نسبيا إلى مقـرّ العمل. فوق ذلك، وجدتُ من الوقت ما يكفي لكي أفتّش عن “بداية” لحكاية اليوم، ومُشكِلي مع البدايات معروف..

الثّالثة وثلاث وعشرون دقيقة، مخاض البداية.. أحاول أن أكتب مطلعا لحكاية اليوم هنا في العمل، على أساس أن أُنهيَها لاحقاً. لديّ اليوم مُخطَّط مُسبَق لتنظيف الغرفة وتنفيذ عملية “تْخمالْ” كاملة. “برْزَطني” كثيرا “بوجعرانٌ” ضخم ليلة أمس.. لا أدري من أين تسلّل إلى الغرفة، التي لا تُترَك مفتوحة أبدا إلا للضّرورة. اندسّ، الحقيرُ، بين ملابسي وكتبي وانتظر إلى أن أطفأتُ النور كي يغادرَ مخبأه ويَطرُد النـّومَ مِـن جفنَيّ، بصوتِ تحرّكاتِه المُقـزّزة في صمتِ اللـّيل.

السّادسة. انتهيتُ، أخيراً، من هذا الواجب الثقيل: التّخمالْ.

-الشّْريفَة، وجّدْتِ شي فْطورْ؟

-كُلشي مُوجودْ. هْنا وْلا لهيهْ؟

-هْنا نيتْ، هاني جايّ، وْجّدي ليّ طْبلتي؛ كيفْ العادة..

تابعتُ في اتجاه السّْويقة. في نهاية الدّرب استدرتُ يميناً لكنْ سرعان ما تراجعتُ. بائعو السّمك، المنتشرون بعشوائية وسط الساحة الضيقة، صيّروا الأرضية لزِجة ومُوحلة بكيفية تُعطيك انطباعا بأنكَ فـي أحد دواوير المغرب العميق.. لففتُ يساراً. بائعا هْندية متقابلان، مُنهمكانِ فـي تقشير حبّاتِ سلعتيهما المُشوَّكة. استدار سائقُ “تريپورتور” (درّاجـة ثلاثية العجلات) واصطدم بالعربة المجرورة للبائع البائس. كـان سائق التريپورتور بائساً آخَر من شباب الحيّ. بائسٌ يعتدي على بائس.. (إليكم المشهد):

-واعا بْشويّة عْليك أصاحْبي..

كانت الجملة كافية لينبُت للسّائق قرنانِ غير مَرئيَين.. تراجَع بدرّاجته إلى الخلف ثمّ انطلق نحو العربة المجرورة وصدمها بقوة أكبر! طارتْ حبّاتِ الهْنديَة في كـُلّ اتجاه، بفعل قـُوة الصّدمة. لبث البائس الأوّل ينظر إلى البائس الثـّاني وهو يُمارس عليه “حگرتَه” و”تـْرْمضينتَه” الجامحتَيْن.. عندما هَمّ بالكلام، ودون أن يعرف أو أعرف من أين نبعا، أحاط به كائنان مُزركشانِ أوْشاماً، من كـُلّ الأشكال وفي كـُلّ مكانٍ من الجَسدَيـن.. (أشْ خـاصّكْ، ألجّيعانْ، لـُوشْمْ، أمُولاي). قـلتُ لي، وأنا واقفٌ غيرَ بعيد، أراقب فصول هذه المسرحية المُباشرة.

-راهْ حيتْ جاوْبتيهْ داكـْشي عْـلاشْ.. كونْ غيـرْ ما هْضـرتِ مْعاهْ گـاعْ.. واشْ مـا عارفشّ زْويزُو!
وسكـتَ البائسُ. ابتلع إهانة البُؤساءِ الثلاثة. جمَعَ سلعته وأعادها إلى مكانِها فوق سطح عربته.

وحين ابتعد “فْرعُونْ الصّغيرْ” فوق درّاجته الضّخمة وتوقّف عـلى بُعد أمتار أمام محلّ جزارة، قال أحدُ الواشِمَيْن للآخَر: “حْگرْ عليهْ.. كونْ لـْقاه وْلد لبلادْ ما غاديشّ يديرْ مْعه هاكا”.. قـالها وهـو يجول بنظراته على الحاضرين. كأنه ينتظر رَدّاً عـلى عنصريته المفضوحة. انخرَطا، بَعد ذلك، فـي حديثٍ جـانبي (ليس فـي تفـاصيله مـا يُسمع والوقتُ صيّـام).. سألتُني: هل أنتَ هُنا لتبحث عـن فاكهة أمْ عن حكاية؟

غير بعيد، جهة الحُوّاتة، “شعلتْ” أمٌّ في وجهِ هيكلٍ ضخم (فهمتُ، في ما بعدُ، أنه ابنُها). انفجرتْ في وجه “الجُثة” الضّخمة بالوعةٌ بغيرِ مُستحَبّ الكلام والوقتُ صيام.

-ماذا يظنّ، الغبيّ، نفسَه؟ أنا من أعرَقُ من أجله.. وليس هو من يفعَل! اللهْ يلعْن (……….) بُوه!

ظلّ المسكين مشدوها، صامتا. وحْدَها النظراتُ كانتْ قاتلة.
اشتريتُه، السّْلْك.. تبضّعتُ كيلو كرمُوس بسرعة. درتُ حول البناية الواطئة وسط الساحةِ وعُدتُ إلى رأس الدّرب، حيثُ الحكايا سيّدة الدّيسيرْ، الغالي منهُ وَالهْنْديّ.. صوتٌ ما من وراءِ صناديقَ مُصطفّة كيفما اتًفق. كنتُ أسير بمحاذاة الصّناديق. نطّ، من العدم، كائنٌ في هيئة مُضحكة ووقفَ على ما يُشْبه الرّصيف ممّا ظل صامدا حول مركز البوليس، البناية المتهالكة، التي لا أفهم كيف صمدت وسط هذه البيئة المجرمة طوال هذه السنين. مررتُ أمامَه. صرخ في الناظرين، وكأنما عبر طبلتَي أذنَيّ المسكينتَين:

-وا بااازّ لْهاد البشااارْ، كيمّا دْرتِ مْعاهْ تُوحْل! سيرْ أوْدّي عْمّرتـُو لْبلادْ..

قالها وهو يُشيّع أحدَهُم بنظرة مُتّقدة. شعرتُ بأنفاسِه الحارّة وهو يتحرّك ويقف إلى جانب شخص آخَـر، أضخمَ منه جثة. بَدَا واضحاً أنه يستنجد بصديقِه مِـن ردّةِ فعلٍ محتمَلة من خصمه الذي لم أتبيّنه. منعْتُ ضحكةً واكتفيتُ بابتسامة، كما كثير من الحاضرين. كم هُم قريبون “أبطالُ” هذي القصصِ السّريالية حدّ الواقعية.. يكفي أن تنبس بكلمة فتصيرَ “شخصاً” من شخوص حكاية ما والوقتُ ذاتَ رمَضان..

وإن هي إلا بضع خطواتٍ في الدّرب حتى سمعت في الأرجاء: اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبَر..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *