عبد الرزاق بوتمُزّار
ح. 11
عندما كادَ الموتُ يَخطفُني!
كان الموسم الدّراسي قد انطلق بالكاد ببضعة أسابيع عندما بدأتْ دوخةٌ خفيفة تُصيبني بين الحين والآخر. في البداية، لم أكن أُعيرُ هذا الطارئَ الصحّي كبيرَ اهتمام. متى أحسستُ يوماً أنـّني في كاملِ عافيتي؟! لكنْ صار يُصاحب الدّوخةَ إحساسٌ بتعبٍ مُتواصل. أحياناً كثيرة، كنتُ أحسّ بأن ركبتَيّ غيرَ قادرتَيْن على تحمّل وزر جسدي، رغم ضآلته. ثم تطورت الأمور.
صرتُ أسقط مُغمًى عليّ بعد أن أقطع مساحة قصيرة داخل المنزل، الذي لازمتُه، أياماً بعد ذلك، وقد اشتدّت عليّ أزمة المرض. كنتُ أنهض من سقطتي وأواصل، مُتحاملاً على نفسي، إلى أن لم أعدْ أقوى، فلازمتُ الفراش؛ لا أغادره إلا للضّرورة القصوى.
أمّي، المسكينة، لم تفهم ما حلّ بي. كانت تعرف كم كنتُ أكره زيارة الأطباء. حاولتْ أن تُفاتحَني في الموضوع ذاتَ صباح، بعد عودتها من السّوق؛ وعندما لم تلمس تجاوُبي وضعتْ برتقالة قرب رأسي وانسحبتْ في خفة، تُداري دموعَها. كنتُ موقناً من أنّ نهايتي صارت وشيكة؛ وكانت هي تشعر بما أفكّر فيه وحاولتْ، مراراً، إبعاد مثل تلك الهواجس عني. وحين لم تعد تستطيع التحدّث معي في الموضوع صارت تهرُب من نظراتي الواجمة كي لا تخونها دموعُها أمامي يوماً.
نظرتُ صوب البرتقالة ولم تقوَ يدي على أن تمتدّ لتناوُلها. إلى هذه الدّرجة استبدّ بجسدي الوهَن!؟ كنتُ أعشق البُرتقال، الذي صار، منذ أيام، الطعامَ الوحيدَ الذي أتذوقه؛ بل لم يعد طعامٌ غيرُه يستقرّ في أمعائي غيرَ لحظاتٍ يسيرة تهتزّ بعدها معدتي بعُنف ويَصعَد ما فيها نحو فمي؛ فأتقيّأ كلّ ما أكلت وما لم آكلْ بعدُ..
لحظاتٍ بعد من خروجها، مُهرولةً، من غرفتي، عادت أمّي ومعها أحدُ أشقائي وزوج شقيقتي. أردتُ أن أحتجّ، أن أعارض؛ لكنّ الرّجُليْن أسنداني وأخرجاني، عنوةً، “عْند الطبيبْ”. بدتْ لي المسافة القليلة الفاصلة بين المنزل والمكان حيث أوقفَا السّيارة، في مدخل الدّرب، أميالاً، لشدّة ضعفي وارتخاء المَفاصل وتَخلّيها عنّي.
عندما رأيتُ الطبيب، لحظاتٍ قليلةً بعد دخولنا عيادتَه، يهمس لرفيقَيّ، وقد أبعدهما عنّي، بما خمّنتُ أنه نتيجةُ كشفه السّريع، أدركتُ أنّ هناك أمراً ما جلَلاً. وتأكّد لي صدقُ تخميناتي عندما أجلساني، برفقٍ زائد، على المقعد الخلفيّ للسيارة، التي انطلقت بجُنون تقطع المسافات في غير اتّجاه المنزل.. كانت الوجهة مُستشفى “المامونية” العُموميّ.
أمضيت هناك شهراً كاملاً وأنابيبُ الدّماء و”الصّيرُوم” تتناوب على ذراعَيّ، وحياتي مُعلَّقة بين الحياة والموت..
حين سألتُ شقيقِي، أياماً بعد زيارة الطبيب، عمّا كان يُوشوش لهما في ذلك اليوم، أخبرَني بأنه قال لهما، بالحرْف، إنّ الفاصلَ الأقصى بيني وبين الموت، يومَها، كان أربعاً وعشرين ساعة، لا غير!